تفجيرات الأسواق.. الموت جملة وقطاعي في السودان
مواطنون - علي طاهر
مثلما تباع السلع بالجملة والقطاعي، الموت هنا في أسواق الخرطوم كذلك، فإن روح الإنسان داخل هذه التظاهرات الشرائية في العاصمة السودانية أرخص بكثير من البضائع، وليس لها قيمة. قد تذهب هذه الأرواح بالموت الجماعي "جملة"، وربما في المستشفى التي ترسل إليها مقطع الأوصال في الرمق الأخير، ويمكن أن تودع الحياة وعلى ظهر الجثة ديباجة مكتوبًا عليها "مجهولة الهوية".
الحرب في السودان، التي وصل عمرها اليوم ثمانية أشهر، سمحت بالاعتداء على الأسواق بشكل غير مسبوق. تم نهب المحلات والمعارض التجارية وسرق البضائع، وبعثرة محتويات المخازن الملحقة بأطرافها. لم ينته الأمر عند هذا الحد من الجرائم، بل شهدت خمسة من الأسواق بالعاصمة الخرطوم، سلسلة تفجيرات وغارات جوية خلفت مئات الضحايا، وتركت عدد كبير من الجثث تحت أنقاض البضائع المحترقة في مشهد مأساوي لم يألفه السودانيين.
أغلق "حماد" الخياط باب محلاته داخل سوق ستة بالحاج يوسف، وغاب يومين. عندما عاد سأله جيران العمل للاطمئنان عليه، قال أنه بخير، ولكن غاب لأنه ذهب للبحث عن جثتي امرأتين من الأسرة كانتا ضمن ضحايا انفجار وقع في سوق سوبا بمنطقة شرق النيل، وجد السائلين عن حاله إجابة، ولكنها صادمة فاكتفوا بمواساته وسط سيل من الأسئلة الجارفة التي عجز الرجل المكلوم الرد عليها.
لم تك هذه القصة الوحيدة التي خرجت من بطن الأسواق التي تم تدميرها، هناك الكثير من الروايات المفزعة تحكي عن أشلاء الضحايا ومعاناة المصابين مع رحلات العلاج على غرار الشاب "م" الذي تعرض للإصابة برايش على مستوى الأرجل داخل سوق "قورو"، تم اسعافه، قبل أن يطلب منه الأطباء السفر للولايات لتلقي المزيد من العناية الطبية, ذهب إلى ولاية الجزيرة المتاخمة للعاصمة السودانية المأزومة، وهناك بدلاً من الذهاب إلى المستشفى حجزت عليه السلطات.
ووفقاً لأعراف وقوانين حقوق الإنسان، يعد الاعتداء على الأسواق، المستشفيات، دور العبادة والتعليم جريمة شنعاء ، إلا أن طرفي الحرب الدائرة حتى الآن مزقا هذا العرف، وتعديا على حقوق الإنسان في السودان، وتم قصف وتفجير خمسة أسواق كانت محتشدة بالناس ومكدسة بالبضائع، على غرار سوق "قندهار" الذي يقع أقصى غرب العاصمة الوطنية مدينة أم درمان، والذي ينشط في بيع الماشية والأغنام وأكبر سوق شواء اللحوم في العاصمة الخرطوم، تم قصفه مؤخرًا برشقات صاروخية، حيث قالت لجان مقاومة أم بدة - دار السلام في بيان، إن الطيران الحربي قصف سوق قندهار ومربع 17 دار السلام مساء الأربعاء الموافق 7 ديسمبر، وخلف التفجير الصاروخي 97 جثة وعدد كبير من الإصابات المتفاوتة.
المشهد الدامي لقصف سوق قندهار استدعى حادثة مماثلة بشعة بسوق "قورو" بضاحية مايو جنوب العاصمة الخرطوم الذي تعرض لغارة جوية يوم 10 سبتمبر الماضي، حيث أعلنت غرفة الطوارئ جنوب الحزام أن الضربة الصاروخية أسفرت عن مقتل 40 شخصاً في الحال، فيما أكد الناطق الرسمي باسم الغرفة حينها، ارتفاع عدد الضحايا بسبب الإصابات الخطيرة التي تم إسعافها إلى مستشفى بشائر.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي صبحية 25 شهر نوفمبر، على نطاق واسع مقطع فيديو خادش للذوق. جثث وأوصال آدمية متقطعة نتيجة تفجير قذائف شرق السوق المركزي الخرطوم، نتج عنها عشرات الوفيات ومئات الإصابات.
وبدأ عرض مناظر الأسواق المحروقة، والبضائع المتفحمة بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الحرب منتصف شهر أبريل الماضي حيث تعرضت الأسواق الكبيرة للإعتداء والتلف خاصة سوق مدينة بحري الذي يعد أول سوق تم حرقه..
الغارات الجوية والتفجيرات التي طالت أكثر من خمسة أسواق، داخل ولاية الخرطوم، أزهقت أرواح بريئة لا يستطيع أحد حصرها بشكل دقيق، ومع ذلك ظل الفاعل الحقيقي مجهولًا، الكل يغسل يديه من المسئولية، ولكن يظل العقل الجمعي يسأل بوعي: كيف لسوداني أن يقتل بضربة واحدة 40 مواطنا، ثم ينظف سلاحه من دماء الأبرياء وينوم غرير العين؟