
المجد للسلام..
خالد ماسا
وبتاريخ الحادي والعشرين من شهر يوليو 2025 ، أصدرَ السيّد الدكتور/ كامل إدريس، رئيس الوزراء، وبموجب التفويضِ الممنوحِ له، القرارَ رقم (96/2025) والذي قضى بإنشاء المجلس الأعلى للسِّلم الاجتماعي، بأهدافٍ ومهامٍ تمّ النصُّ عليها في القرار الصادر بتوقيعه، بنشر وتعميق مفاهيم التسامح والتصالح وقبول الآخر، كما تمّ تكليف المجلس بتنظيم حملاتٍ للتوعية حول أهمية السِّلم الاجتماعي، والعمل على تشجيع الحوار البنّاء بين مكونات المجتمع، وإجراء الدراسات والبحوث حول الأسباب الجذرية للنزاعات، واقتراح الحلول عبر شبكات تواصل بين المبادرات، وتقديم الدعم الفني لها.
(*) تغيُّرات في نمط تفكير الدولة!!
وصدور قرارٍ بهذا التوصيف والمهام يقودنا لطرحِ السؤال عن محددات إصداره، وهل تنتمي هذه المحددات إلى ذات الفصيل من القرارات التي صدرت سابقًا باختلاف المسميات وتطابق المضمون؟ أم هو نهجٌ جديدٌ يُولَدُ مع ميلاد حكومة "الأمل" التي وعد وبشّر بها رئيس وزراء الحكومة في خطابه الأول، ليعمل هذا المجلس على الوصول لما سبق ذكرُه في خطاب حكومة الأمل؟
ظلّت مصطلحات "السِّلم الاجتماعي" و"الوحدة الوطنية" و"مخاطبة جذور الأزمة السودانية" تحلّق في سماوات الخطاب السياسي العام، لخُطبةِ وُدِّ المجتمع السوداني المتأذي من نواقض هذه المصطلحات، ومن كثرة ترديدها واستهلاكها، فقد إيمانه بها، ولم يعُد يملِك الثقة في قدرتها على تطبيب جراحاتٍ ظلّت تُحدثها الحروب وصراعات كراسي السلطة، وصار فتقها أكبر من أن ترتقه عباراتٌ فضفاضةٌ يتم استدعاؤها متى ما كانت الحاجة لأجسامٍ وتكويناتٍ في هياكل الدولة تدّعي المعالجات لأزماتٍ ظلّت ملازمةً للمجتمع السوداني.
(*) تاريخ ميلاد القرار...
و"الناس في وطني يُؤرّخون لميلادهم بالكوارث"... منهم من وُلِد في سنة الجدري، ومنهم من وُلِد في سنة التساب، ومنهم من كان تاريخ ميلاده قد صادف العام 1989...
والقرار (٩٦) يصادف السنة الثالثة من الحرب، وبذلك قد يقول قائلٌ بموضوعية صدور القرار، وأنّ الحاجة المُلِحّة لصحة المجتمع السوداني الآن هي وجود مجلس يتبنى موضوعات السِّلم الاجتماعي، ويعالج إفرازات الحرب التي أدّت لتصدعاتٍ كبيرةٍ في المجتمع السوداني.
ويبقى السؤال حاضرًا في هذا الظرف عن إمكانية تقديم خطاب السِّلم الاجتماعي وخطاب الحرب معًا في منصةٍ واحدة، وعن هل يُجدي اطلاق الخطابين نفعًا في آنٍ واحد، لتتحقق أهداف خطاب الحرب المتصدّر الآن، والأهداف المذكورة أعلاه في قرار إنشاء مجلس السِّلم الاجتماعي؟
وبمعنى آخر، يأتي السؤال عن ترتيب الأولويات في أوان الحرب: هل هي لخطاب التحشيد الحربي الفاقد -في غالبه- لحساسية السِّلم الاجتماعي؟ أم لخطابٍ يدعو لتماسك المجتمع ووحدته الوطنية؟
إذ لا يخفى على المتابعين تعاميم متداولة بأنّ للحرب خسائرها الجانبية "الضرورية"، وإن وصلت لحدود إزهاق أرواح مدنيين لا ذنب لهم في هذه الحرب، سوى أنهم مدنيون، للوصول لغاياتٍ يراها أصحاب التبرير أنها أكبر من عواطف ورومانسيّة خطابات السِّلم الاجتماعي في زمنٍ يتحدّث فيه الرصاص، وتحلّق فيه المسيرات.
(*) شبابيك الدخول...
وأهداف إنشاء المجلس الأعلى للسِّلم الاجتماعي، والمهام التي كُلّف بها، والتي لا خلافَ عليها، يجب التعاطي معها والحرب لا تزال رحاها تدور، وتعمل أسلحتها على تمزيق ما تبقّى متماسكًا في المجتمع السوداني.
بل وصل الحال بحرب أبريل أن تكون مكوناته الطبيعية واحدةً من مخازن السلاح، الذي أثبت نجاعته في حرب أبريل التي صعد فيها نجم "الحواضن" الاجتماعية، وارتفعت قيمتها في بنك الأهداف العسكرية لتحقيق الوصول للنصر في هذه الحرب.
من رسم خارطة توزيع "الحواضن" في مجتمع الحرب، اعتمد "الكنتور" القبلي، وفصّد جسد وتركيبة المجتمع بسكين التقسيم القبلي، وصار المدخل للانتماء الوطني والحقوق في هذا البلد هو شُبّاك التصنيف القائم على القبيلة وجغرافيا الكراهية، التي يرسمها الخطاب المتزمت تجاه الآخر.
البوابةُ الرئيسية للسِّلم في المجتمع السوداني هي إيقاف الحرب، وإسكات البندقية، لأنّ ذلك يصنع أجواءً صحيّة لكل مهام المجلس وأهدافه، ويُسهّل الطريق الطويل لمعالجاتٍ يستعيد بها مجتمع ما بعد الحرب سِلْمه وأمنه.
الدخول إلى عمليات السِّلم الاجتماعي يأتي من باب التعامل مع محددات الحرب ذات العلاقة بالتوزيع العادل للثروة والسلطة، وتداولها على نحوٍ سلميٍّ يحفظ للجميع الحقوق، دون محاصصاتٍ تُعطي صوت البندقية حظًّا بقدر الصوت الذي يخرج منها.
المواطنة... وقيام دولتها هو الضامن للسِّلم الاجتماعي، إذ تتوزع الحقوق على أساسها، وليس على أساس تضخيم صوت القبيلة والروافع الاجتماعية، والتي حلّت محل الحق الوطني والقومي، وصارت هي المُبرِّر لاحتكار السلطة والثروة في السودان، وبابًا واسعًا للفساد الذي يُولِّد الغُبن المجتمعي.
غياب دولة القانون، التي ظلّ يُنادي بها الفصيل المدني، هو واحدٌ من مهدّدات السِّلم الاجتماعي في السودان، وهذا الغياب هو الذي يحمي حوامل خطاب الكراهية المتصاعد الآن، وهو الوصفة التي بها يمكن تفكيك كل ما يُماسك سلم المجتمع وأمنه، إذ ظلّت شرعةُ الغاب القائمة على تصنيفات خطاب الكراهية هي الحاكمة، وهو الذي ظلّ يضرب ممسكات الوحدة الوطنية.
تحتاج مهام وأهداف مجلس السِّلم الاجتماعي لإصلاحاتٍ حقيقية في الخطاب الرسمي، سواء كان الذي يصدر عن شاغلي المناصب الدستورية، أو قيادات الإدارة الأهلية، وصُنّاع الخطاب السياسي العام والإعلاميين، وذلك لمحاصرة خطاب الكراهية بخطاب وعيٍ وتنوير، وتحرير الفضاء العام من الردة التي حدثت في الوعي المدني لصالح خطابٍ يُقسّم المجتمع السوداني على أسسٍ قبلية.
(*) المجدُ للسّلام...
العثرات التي تواجهها جهود الحل السياسي لحرب أبريل هي العقبة الكؤود أمام تحقيق سِلْمٍ اجتماعيٍّ بسقفه الأعلى، الذي يصل إلى حدود الوحدة الوطنية.
والتعويل على التحشيد القبلي، وتأسيس الميليشيات، وتناسلها، وتكاثر أوتادها، ومخاطبة الحميّة القبائلية لإنجاز المشاريع السياسية، سيجعل من مهام المجلس الأعلى للسِّلم الاجتماعي غايةً في الصعوبة. ولذلك، فإنّ من شروط تهيئة المناخ السوداني لإصلاح ما خربته الحرب، هو إيقافها، وأن يكون الشعار هو: "المجد للسِّلام".
اهتمام الحكومة بقضايا النازحين واللاجئين، والحرص على رفع المعاناة عن كاهلهم، جزءٌ من الطريق نحو السِّلم الاجتماعي المنشود، وكذلك الاهتمام برفع المظالم، وقضايا التعليم، وتحديدًا مسألة المناهج، ومخاطبتها لموضوعات التنوع وتعدد الثقافات، والاهتمام بإنتاج مشروعٍ وطنيٍّ واحدٍ متفقٍ عليه، بدلًا عن المشاريع السياسية التي نراها الآن تفتح أوسع الأبواب للانفصال على أُسسٍ تقسيم قبلية ومناطقية.
مياه الحرب العَكِرَة يصطاد فيها أصحاب المصلحة في استمرارها، باستخدام الأسلحة المحرّمة أخلاقيًّا كالعنصرية والتطرف العنيف، واستغلال خطاب المظلومية والتهميش للصعود لأهدافٍ لا يستفيد منها أصحاب المصلحة الحقيقيّون.
السِّلم الاجتماعي لا تُجدي معه الحلول الفوقية، بل هو مشروعٌ وطنيٌّ يُسهم فيه الجميع: مثقفون، وأكاديميون، ورجالُ دين، ونُظار، وإداراتٌ أهلية، وسياسيون، وإعلاميون.
وهو جهدٌ يجب أن تُحشد له كل طاقات المجتمع السوداني، ويُخاطب هذا الجهدُ كلَّ ما أورثتنا له الحربُ بسنواتها المتطاولة، وخرّبت به تماسكًا للمجتمع السوداني كان من الممكن جدًّا أن يكون هو الثروة التي تقوده لمصافّ الدول والشعوب في الإقليم.