
مسعد بولس.. شيفرةُ سلامِ السودان
ومن بينِ أسماءٍ كثيرةٍ في الإدارةِ الأمريكيَّة، والتي تعاقبَ عليها رؤساءُ جمهوريُّون وديمقراطيُّون، كانت ملفاتُ الشرقِ الأوسطِ وأفريقيا ذاتَ أولويَّةٍ وأهميَّةٍ قصوى لديهم، باعتبارِ تعقيداتِ هذا الملفِّ وتقلباتِه وتأثيراتِه على السياساتِ الأمريكيَّة. لمَعَتْ أسماءُ هنري كيسنجر، وأنتوني بلينكن، وجيفري فيلتمان، ليجيءَ الأخيرُ، مسعد بولس، ليكونَ كبيرَ مستشاري الرئيس ترامب لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، في الفترةِ التي تُعَدُّ الأكثرَ تعقيدًا في العالم، بسببِ الحروبِ المشتعلةِ في المنطقةِ واقترابِها من المساسِ بالمصالحِ الأمريكيَّة.
فحصُ الشخصيَّةِ
والممسكونَ بهذا الملفِّ طوالَ فتراتِ الرؤساءِ الأمريكيِّينَ المتعاقبينَ، هنالك اشتراطاتٌ أهليَّةٌ تدفعُ بهم لتولِّي المهامِّ المتعلِّقةِ بهذا الملفِّ، سواءٌ كانت خلفيَّاتٍ سياسيَّةً أو حتى تدرُّجًا وظيفيًّا.
وعند الوقوفِ على ملفِّ مسعد بولس، الذي عهدَ إليه الرئيسُ الأمريكيُّ هذا الملفَّ في ولايتهِ الثانيةِ، نجدُ أنَّ كلَّ الاشتراطاتِ اللازمةِ التي تفتحُ الطريقَ أمامَه لتولِّي رعايةِ المصالحِ الأمريكيَّةِ في الشرق الأوسط وأفريقيا متوفِّرةٌ، وتُؤهِّلُه لأن يكونَ كبيرَ مستشاري البيت الأبيض.
فهو الأمريكيُّ من أصولٍ لبنانيَّةٍ، ومن أسرةٍ ذاتِ تاريخٍ سياسيٍّ في لبنان، وهو مالكٌ لإحدى الإمبراطورياتِ التجاريَّةِ في أفريقيا، وتربطُه علاقةُ مصاهرةٍ مع الرئيسِ ترامب، وهو كذلك من اللاعبينَ الأساسيِّين في الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ الأخيرةِ التي جاءتْ بترامب إلى البيت الأبيض، إن لم يكنْ أهمَّهم، بسببِ خلفيَّاتهِ العربيَّةِ التي خاطبَ بها الناخبينَ من الجاليةِ العربيَّةِ بلسانِ الحزبِ الجمهوريِّ في ولايةِ ميشيغن.
وبالتالي، وعلى الرغمِ من المزاجِ المضطربِ لشخصيَّةِ ترامب مع مستشاريهِ (إيلون ماسك نموذجًا)، إلَّا أنَّه يُعَدُّ الأقربَ إلى الرئيسِ ترامب وطريقةِ تفكيرِه.
وبما أنَّ إيقافَ الحروبِ المشتعلةِ في العالمِ كان جزءًا من الدعايةِ الانتخابيَّةِ للرئيسِ ترامب، لم يَخْفَ على المراقبينَ الاختراقُ الكبيرُ الذي حدثَ في ملفِّ لبنان المعقَّدِ والمتشابكِ، وسوريا، وما قد نسمعُه قريبًا في ملفِّ الصراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليِّ، وكلُّ هذا يرفعُ من أسهمِ كبيرِ مستشاري الرئيسِ لشؤونِ الشرقِ الأوسطِ وأفريقيا.
إنجازٌ تاريخيٌّ
أو هكذا سمَّاه مسعد بولس، مستشارُ ترامب، في حواراتٍ أُجريتْ معه على قناتي الجزيرةِ والشرق، تعليقًا على اتفاقِ السلامِ بين الكونغو الديمقراطيَّة ورواندا، والذي أوقفَ حربًا استمرَّتْ لثلاثين سنة، وهي الأكبرُ من حيثُ عددِ الضحايا (٦ ملايين)، وما يزيدُ عن (١٠ ملايين) لاجئ، هم خلاصةُ الأثرِ الإنسانيِّ لهذه الحرب، إلى جانبِ تأثيرِها على دولِ الجوارِ والإقليم.
الاتفاقيَّةُ التي تمَّ توقيعُها في ٢٧ يونيو ٢٠٢٥م، والتي عُرِفَتْ بـ(Washington Accord)، والتي دخلتْ حيِّزَ التنفيذِ منذُ التوقيعِ عليها، وتبقتِ المظاهرُ البروتوكوليَّةُ في البيتِ الأبيضِ بحضورِ وتوقيعِ الرئيسِ الأمريكيِّ ورئيسيِ الدولتين، تُعَدُّ سطرًا مهمًّا جدًّا في السيرةِ الذاتيَّةِ لكبيرِ مستشاري الرئيسِ لشؤونِ الشرقِ الأوسطِ وأفريقيا، وتمنحهُ اللياقةَ المطلوبةَ لإكمالِ ما تبقَّى من ملفاتٍ تقعُ تحت نطاقِ تكليفهِ ومسؤوليَّاتهِ، والتي ربما تُصعِّدُ بنجوميَّتهِ في دائرةِ المقرَّبينَ من الرئيس ترامب.
حربُ السودان.. حالةٌ مُقاربةٌ
بطريقةٍ أقربَ للمشاهدِ التي تُنتجُها هوليوود، قام السيِّدُ ماركو روبيو، وزيرُ الخارجيَّةِ الأمريكيُّ، بعد حديثٍ تنويريٍّ للصحفيِّينَ حول (Washington Accord) بين الكونغو ورواندا، بسؤال مسعد بولس، الذي كان يقفُ بجوارِه:"ما الذي ستعملُ عليه بعد هذا الاتفاق؟"
ليُجيبَ السيِّدُ المستشارُ بأنَّ الخطوةَ القادمةَ هي السودان، وليُكملَ بعد ذلك السيِّدُ الوزيرُ الحديثَ بأنَّ المحطَّةَ القادمةَ في اهتماماتِ حكومتِهِ هي حربُ السودان وكيفيَّةُ إيقافِها.
الحربُ التي أوقفتها Washington Accord هي صراعٌ بين دولتينِ ذاتِ سيادتينِ مختلفتين، امتدَّ لثلاثين عامًا، دعمتْ خلالها الكونغو الديمقراطيَّةُ ميليشيا FDLR، بينما دعمتْ رواندا متمرِّدي M23، ومن ثمَّ تدخَّلتْ قوَّاتٌ من أوغندا وأنغولا وبوروندي، ومن الاتحادِ الأفريقيِّ.
وهي تختلفُ عن حربِ أبريلَ في السودان من حيثُ الأطرافُ وطبيعةُ القوَّاتِ المتقاتلة. وبحسبِ رؤيةِ مسعد بولس، فإنَّ عينَ حكومتِه لا تنظرُ للحربِ الدائرةِ في السودانِ كحربٍ بالوكالة، بل تراها كصراعٍ بين طرفينِ على السلطة.
وتتطابقُ رؤيتُه للحلِّ في حربِ السودانِ مع ما حدثَ في المسألةِ الكونغوليَّةِ الروانديَّة، والتي – وعلى الرغم من تطاولِ أمدِها – فإنَّ السبيلَ الوحيدَ للحلِّ هو الحلُّ السياسيُّ التفاوضيُّ، وأنَّه لا حلَّ عسكريًّا يُنهي الحربَ القائمةَ، حسب رؤيتِه.
الولاياتُ المتحدَّةُ تنظرُ إلى ملفِّ السلامِ بعينِ مصالحِها، والمكاسبِ التي يمكنُ تحقيقُها حالَ تدخُّلِها لفضِّ النزاعاتِ، وتقسيمِها لخارطةِ المصالحِ الاقتصاديَّةِ التي رسمها الرئيسُ ترامب لتعبئةِ خزانةِ دولتِه.
ولذلك كان الاهتمامُ بملفِّ حربِ الكونغو ورواندا مُقدَّمًا في القارةِ الأفريقيَّةِ، ولم تكن الاتفاقيَّةُ الموقَّعةُ بين الطرفينِ مجرَّدَ وقفٍ لإطلاقِ النارِ وسحبٍ للقوَّاتِ من ميادينِ القتالِ، بل هي "حزمةُ" اتفاقيَّاتٍ اقتصاديَّةٍ مصاحبةٍ، حصلتْ فيها الولاياتُ المتحدَّةُ على أكبرِ اتفاقيَّةٍ للمعادنِ النادرةِ مع الكونغو، تُقدَّرُ بملياراتِ الدولارات، بينما شهدت كيغالي، العاصمةُ الروانديَّةُ، في المؤتمرِ الذي عُقدَ فيها، توقيعَ ١٠ اتفاقيَّاتٍ ذاتِ عائدٍ استثماريٍّ كبيرٍ للاقتصادِ الأمريكيِّ.
وهنا يجبُ علينا النظرُ إلى الحافزِ الاقتصاديِّ الذي يمكنُ أن يعودَ على الخزانةِ الأمريكيَّةِ، بحيث تُلقي بثقلِها السياسيِّ والدبلوماسيِّ في ملفِّ حربِ السودان، وتُصيبَ ذاتَ النجاحِ الذي حققتْه في الكونغو ورواندا.
وهل الحلُّ الذي سيجتهدُ فيه مسعد بولس سيكونُ مُرضيًا، بحيث تذهبُ القوَّتانِ المتقاتلتانِ لتوقيعِ اتفاقِ سلامٍ يُنهي الحرب؟
رؤيةُ الولاياتِ المتحدَّةِ عمومًا لقضايا السلامِ لا تنفصلُ عن تحقيقِها لمصالحِها الذاتيَّةِ، بالإضافةِ إلى مراعاةِ مصالحِ ورُؤى الشركاءِ الإقليميِّينَ والدوليِّينَ، وعلى هذا الميزانِ ستُبنى فرصُ السلامِ في السودان.
بالأساس، الولاياتُ المتحدَّةُ لم تكن بعيدةً عن الملفِّ السودانيِّ عبر الآليَّة الرباعيَّة، ومع ذلك لم يمنعْ وجودُها اشتعالَ الحربِ، ودفعَ السودانُ هذه التكاليفَ الباهظةَ، واستمرَّت الحربُ لعامين، وأرسلتْ وعيَّنتْ مبعوثيها الخاصِّين لهذا الشأنِ، إلَّا أنَّ اهتمامَها لم يكن بالقدرِ المطلوبِ لإسكاتِ الرصاصِ في السودان.
ولا ندري ما الذي سيختلفُ في إعادةِ اجتماعِ الآليَّةِ الرباعيَّةِ المزمعِ عقدُه في واشنطن هذا الشهر، وهل ستُواصلُ الولاياتُ المتحدَّةُ متاهتَها في ملفِّ سلامِ السودان كما كتبنا من قبل، أم ستُفلحُ وصفةُ مسعد بولس هذه المرَّةَ وتُخمدُ نيرانَ الحربِ في السودان؟
في اتفاقيَّةِ واشنطن، التي أنهتْ صراعَ الثلاثين عامًا بين الكونغو ورواندا، كان هنالك لاعبٌ مهمٌّ قام بأدوارٍ تحدَّث عنها مسعد بولس، وهي دولةُ قطر، والتي تُمسكُ الآن بملفِّ التفاوضِ مع الفصيلِ المسلح M23 في الدوحة، وهو جزءٌ أصيلٌ من الاتفاقيَّة.
ولا تفوتُ هنا الملاحظةُ على الثنائيَّةِ التي تجمعُ بين دولةِ قطر والولاياتِ المتحدَّة في قضايا الحروبِ والتفاوضِ مؤخرًا، وبحسبِ ما أشار إليه المستشارُ، فهي ليستْ جزءًا الآن من الاجتماعِ الذي تمت الدعوةُ له في واشنطن، مع أنَّ الملفَّ السودانيَّ ليس بغريبٍ على دولةِ قطر، التي رعتْ في يومٍ من الأيَّامِ ملفَّ مفاوضاتِ دارفور.
فهل سيكونُ وجودُها شرطَ وجوبٍ لإنجازِ السلامِ في السودان؟ أم سيكونُ للآليَّةِ الرباعيَّةِ وصفةٌ جديدةٌ تصلُ بها لمحطَّةِ السلامِ في السودان؟
وفَّرتِ الاتفاقيَّةُ الموقَّعةُ بين الطرفينِ في واشنطن آليَّاتٍ ووسائلَ ضمانٍ للالتزامِ والتنفيذِ، كما ذكرَ مستشارُ الرئيسِ لشؤونِ الشرقِ الأوسطِ وأفريقيا، وآليَّاتٍ للتحكيمِ تشملُ الاتحادَ الأفريقيَّ، وحزمةَ محفِّزاتٍ اقتصاديَّةٍ للدولتَينِ تجعلُ هناك رغبةً مشتركةً للحفاظِ على استمراريَّةِ الاتفاقِ.
في كلِّ يومٍ تستمرُّ فيه الحربُ في السودان دون الوصولِ إلى اتفاقِ سلامٍ يُنهيها، هنالك متغيِّراتٌ سياسيَّةٌ وعسكريَّةٌ على الأرضِ تخلقُ مجموعةَ عقباتٍ أمام أيِّ مجهودٍ لوقفِ الحربِ وإنجازِ السلامِ، منها الداخليُّ كالاتجاهِ لتشكيلِ حكومتَينِ منفصلتَينِ، أو الخارجيُّ والمتعلِّقُ بتدخُّلِ أطرافٍ إقليميَّةٍ ودوليَّةٍ، الشيءُ الذي يُشعلُ المنطقةَ والإقليمَ.
وبالتالي، كان ينبغي على وزيرِ الخارجيَّةِ الأمريكيِّ ماركو روبيو، وهو يؤدِّي حركتَه المسرحيَّةَ تلك، وهو يسألُ كبيرَ المستشارينَ مسعد بولس عن مهمتِه القادمةِ، أن يُطالبهُ بالاستعجالِ لإنهاءِ أكبرِ أزمةٍ إنسانيَّةٍ عرفَها العالمُ في الوقتِ القريبِ.