24/07/2025

الفاشر .. شهادة فُقدان الضمير الوطني والدولي

<p>خالد ماسا</p>

خالد ماسا

وقد لا تبدو كلمة "الضمير" هي الكلمة المناسبة للاستخدام في سياق الحديث أوقات الحرب المشتعلة في السودان منذ منتصف أبريل 2023م، ولا هي المستساغة في وسط هُتافية المصطلحات الجديدة التي أدخلتها هذه الحرب في القاموس اللغوي السوداني، والتي صار صوتها هو الأكثر جرْسًا ووقعًا على الأذن السودانية، وتأثيرًا على واقع صارت ترسمه خطابات الكراهية والتطرّف العنيف، بل صارت هذه المصطلحات واستخدامها في الفضاء الإعلامي والفضاءات المتفاعلة بمثابة المعيار والمقياس للموقف الوطني في السودان من الحرب التي تدور.

بتخطيطٍ مدروس، وباستخدامٍ احترافي لما هو متاح في الوسائط المتفاعلة، هبطت أسهم الخطاب الإنساني الداعي للنظر إلى الحرب الدائرة من نواحٍ إنسانية، ومن ناحية تأثيرات الحرب على المدنيين، في بورصة الرأي العام، فقط لأن ذلك الخطاب لا يخدم استراتيجيات الحرب، ولا يدخل ضمن المرصود من عتادها، وأن ما ينجزه "فَرْط صوت" خطاب الكراهية تعطلُهُ خطابات النداءات الإنسانية التي تُخمِدُ شهوات تعداد الضحايا من المدنيين، ومتعة رؤية قوافل النزوح، والمشاهد المصاحبة لذلك في فيلم صراع الإنسان مع الجوع والمرض.

الفاشر.. دور البطولة في روايات الحرب
ففي الرواية الأولى لحرب أبريل 2023م، كانت الفاشر، كغيرها من بقية المدن السودانية، هدفًا أساسيًا لفوهات البنادق والمدافع، إلى أن سكتت تكتيكيًّا حتى منتصف مايو من ذات العام بهدنة لا نستطيع أن نصفها بالإنسانية، أكثر من أنها جاءت لأغراض ذات علاقة بترسيم خارطة الأدوار في التحشيد العسكري، ولعبة الموازنات التي تُقرأ بعيون الحرب، لا السلام ولا الإنسانية. ولأن الأمر كذلك، لم تصبر الأوضاع كثيرًا فيها، حتى وصل المشهد ليعرض أقسى فواصل الرعب في هذه الحرب.

الثابت في رواية مدينتنا الفاشر هو أنها هدف عسكري ترتفع قيمته الاستراتيجية في حرب امتدت لعامين؛ فهي من جانب تمثّل آخر مدن غرب السودان التي لم تلحق بالمدن الكبيرة هناك، مثل الجنينة ونيالا والضعين، ومن جانب آخر هي بوابة الانفتاح على الولاية الشمالية وولايات كردفان. وفي وقتٍ ما من عمر الحرب، كانت هي نقطة الحياد الوحيدة، بينما المتغيّر -وهو ما يستحق من كتب فصلاً في رواية مدينة الفاشر "أوسكار" مهرجان "كان" السينمائي– هو مشهد الخيارات المتاحة أمام المدنيين في الفاشر بحسب متغيرات الإرادة التي تصنع الحرب.

غُلِّقت الأبواب، وقال الموت للمدنيين: هيت لك.. فمن بين ستة طرق رئيسة تشكل المدخل والمخرج للمدينة، أُغلق خمسٌ منها، وصار مخرج الفاشر – طويلة هو الوريد المتبقي لخيار الخروج من فك الحصار. والحبكة المأساوية تأتي في أن المدنيين، إن اختاروا الخروج من المدينة، فهم جزء من خطة عسكرية هدفها تقليل الأعباء الإنسانية، والتخلّص من وصمة الانتهاكات، وإن هم اختاروا البقاء، فهم في عين الحصار، دروعٌ بشرية تتحصن بهم خطة عسكرية أخرى. وما بين الروايتين، قُد قميص المدينة من دُبُر وصدقت وكذب من أراد بها وباهلها السوء وحطّمت المدينة كل الأرقام القياسية المرصودة في عدد الضحايا وسط المدنيين، وعدد الأسر النازحة من ويلات سيناريو الحرب والحصار.

ولأن إرادة الحرب لم تكتفِ بمشهد واحد للرعب في رواية مدينة الفاشر، كان هناك فصل اسمه معسكر زمزم للنازحين، حُرّرت به شهادة فقدان الضمير الوطني في هذه الحرب، بأعداد ضحايا من المدنيين: النساء والأطفال وكبار السن، كسرت أي رقم منافس لها في مراصد الضحايا المدنيين لحروب العالم.

أزمة الضمير الدولي
ولا أظننا بحاجة للبحث عن أي أدلة أو براهين لإثبات أن المجتمع الدولي –بمكوناته المختلفة دولاً كانت أو منظمات– يعاني من شُحٍّ فاضح في الضمير المتعامل مع الأزمات الإنسانية التي تصنعها الحروب، وأن تكتيكات موازين القوى ظلّت تهزم الضمير العالمي بالقاضية الفنية، وأن تصريحات الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة / أنطونيو غوتيريش، عن الوضع الإنساني في الفاشر في سبتمبر 2024 وما تمثله الحرب من انتهاكات تطال المدنيين، لم تكن إلا لحظة حرج دولي من الأصوات التي بدأت تظهر وتقول بضرورة إصلاحات جوهرية في المنظمة الدولية، وأنها ما عادت تمثل ضمير الشعوب التي يقوم ميثاقها على رعايتهم وصونهم من الانتهاكات.

وكذلك، ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي / جيك سوليفان في ذات التاريخ، بأن الأزمة السودانية ستكون على رأس أولويات الرئيس الأمريكي وقتها / جو بايدن، لم يكن إلا استجداءً انتخابيًّا رخيصًا، لم يجدِ نفعًا عند السقوط بالقاضية الانتخابية أمام الجمهوريين.

لم يكتفِ المجتمع الدولي من التصريحات منزوعة الضمير حيال الأزمة الإنسانية في الفاشر، والنداءات تخرج من برنامج الأغذية العالمي WFP بأن الوضع الإنساني المأساوي في الفاشر يهدد مصير 300 ألف من المدنيين، وما من سبيل لإدخال المساعدات الإنسانية للمحاصرين، وأن الأوضاع الإنسانية على وشك الانهيار. ويعزّز ذلك تقارير المنظمات الطوعية والفاعلين المدنيين داخل المدينة عن شُح الغذاء والدواء، ونِسَب الضحايا من النساء والأطفال، والمواقف البطولية لمن تبقى هناك، والتي تصفع العجز الدولي وتُعرّيه أمام العالم.

يُعاود الضمير الدولي خذلانه لإنسان الفاشر المحاصر، ويُعاود عجزه بتوسل وتسوّل "هدنة الأسبوع" بسوء ظن من الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، بأنها كافية لتغطية عورة الضمير الدولي في الشأن الإنساني. وحتى هذه الهدنة، وعلى قِصر مدتها، فشل المجتمع الدولي في استثمار بيان القبول من جانب القوات المسلحة وموافقة رئيس مجلس السيادة عليها.

لم تتغيّر النظرة لأي اجتهاد إنساني لفك الحصار عن المدنيين في الفاشر، وظلّت الحسابات العسكرية هي الحاكمة والمتحكمة في مصير المدنيين، لتُقرأ "هدنة الأسبوع" في الفاشر لدى قوات الدعم السريع بأنها لا تتعدى حالة كونها فرصة لالتقاط الأنفاس العسكرية، وإعادة التموضع لحرب يبدو أنها ستطول، والمدنيون فيها لا يتعدّون حدود أنهم "خسائر جانبية" لا تهزّ أي شعرة في مفرِق رأس الضميرين الوطني والدولي.

ليس من الطبيعي أن ينقسم الضمير الوطني حول الأوضاع الإنسانية لمواطني مدينة الفاشر، بسبب المواقف من الحرب نفسها، والأرقام التي تملأ شاشات العرض بالضحايا من النساء والأطفال، والمعاناة لمن تبقّى على قيد الحياة في الحصول على الغذاء والدواء، كافية جدًّا لأن يصحو الضمير الوطني والدولي لإيقاف هذه الكارثة، وإلا سيحرّر كاتب التاريخ البشري شهادة الوفاة للضميرين الوطني والدولي بدلًا عن شهادة الفقدان.

معرض الصور