23/07/2025

كِرياندونقو: سَرْدُ أَحْداثِ موتٍ مُعلَنٍ

خالد ماسا

وبتساوٍ تامٍّ يمكننا النظرُ لما أنتجتْهُ الحربُ في السودان من مآسٍ، والتي يمكننا أيضاً قراءة صفحاتها دون أن ينتقص الترتيبُ من قدرِ أيٍّ منها ومن مأساويّتها.

ففي الحرب، تتحوّل الحياةُ إلى شاشاتِ عرضٍ كبيرة، يظهر فيها الضحايا كأرقامٍ خلفها قصصٌ تحجزُ مكانها في متحفِ التاريخِ الإنساني، ويزورها السياحُ كنوعٍ من مظاهرِ استدعاءِ الضميرِ الغائب، ويزورها السياسيون لخدمةِ خُطَبِهم المُحتشدةِ بالمتاجرةِ بأحوالِ الضحايا.

سَرْدُ أَحْداثِ موتٍ مُعلَنٍ
وأنا.. وأنا أقرأ في الفراغِ الكبيرِ الذي تصنعهُ الحربُ، وسُرادِقِ العزاءِ الإسفيريةِ تكتبُ نعيَها للشابِّ السودانيِّ "الكباشي إدريس كافي"، والذي ألبَستْهُ الحربُ ثوبَ "اللجوء" وهو لا يزال غَضًّا في عمرهِ، وفي أحلامِهِ التي لم يتَّسعْ لها الوطنُ، فبحثَ عن جُرعةِ أوكسجين في معسكرٍ للاجئين في دولةِ أوغندا، بمقاطعةِ "كِرياندونقو"، تفتح صدرَهُ المخنوقَ بدخانِ الحربِ في السودان.

وأنا أفعلُ ذلك، استدعتْ ذاكرتي من مكتبتِها "سردُ أحداثِ موتٍ مُعلنٍ"، والتي برع الكاتبُ الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في توصيفِ مأساةِ مقتلِ الشابِّ ذي الأصولِ العربية سانتياغو نصّار ظُلماً على يدِ الأخوين فيكاريو بسببِ جريمةِ شرفٍ هو أساساً لم يرتكبْها، وكان من الممكن جداً تفادي إزهاقِ روحِه وموتِه المُعلنِ قبل وقوعِ جريمةِ الانتقام، لولا حالةُ التواطؤِ الجماعيِّ في المجتمعاتِ التي لطالما كانتْ سبباً في موتِ الكثيرين، وبالتأكيد لن يكونَ اللاجئُ الكباشي آخرَ ضحاياها.

شيطنةُ شعار "لا للحرب" وإعادةُ تصنيفِه بحسبِ الموقفِ السياسيِّ من طرفي حربِ السودان، وتصفيفُهُ بحسبِ حالةِ "المزاج" منزوعِ الضميرِ الإنسانيِّ، كان بمثابةِ حالةِ التواطؤِ الجماعيِّ ضدَّ حالةِ الشابِّ الكباشي، الذي أخذه الظنُّ الحسنُ في أرضِ اللجوء بأنها ستكونُ "النفاج" الذي يُنقذُ روحَه من الموت في أرضٍ تركها خلفه في الوطن الأم. إلّا أنَّ يدَ الحربِ الطويلةَ لاحقَتْهُ إلى هناك، فصنعتْ له قبراً في مدينةِ بيالي، بمقاطعة "كِرياندونقو".

اللاجئون والنازحون هم أعداءُ الحكومات
بالتأكيد لم يكنْ موتُ اللاجئِ السوداني الكباشي إدريس كافي في أحداثِ معسكرِ كِرياندونقو هو الأولَ من بين اللاجئين السودانيين الذين اختاروا الاستجارةَ برمضاءِ اللجوءِ والنزوحِ من نارِ الحربِ المشتعلةِ في مدنِ السودان، ولن يكون الأخير.

إلّا أن أحداثَ الموتِ المُعلنِ هذه، لم تَحمل الخارجيةَ السودانيةَ لكتابةِ مجرّد "نعيٍ" على روحٍ سودانيةٍ أُزهِقت، فقط لأن البالَ الدبلوماسيَّ مشغولٌ ببياناتِ التعبئةِ الحربيةِ، وشيطنةِ كلِّ ما من شأنِه أن يفضحَ حالةَ التواطؤِ العامةِ ضدَّ سَرْدِ المآسي التي تصنعُها الحرب.

اللاجئونَ السودانيون تخلّتْ عنهم الدولةُ، وربما أسقطتْ عنهم الجنسيةَ بتهمةِ عدمِ انتظارِ الموتِ في جغرافيا الحرب، وهي الممتدةُ إلى خارجِ حدودِ الوطن، في كلِّ معسكراتِ اللجوءِ والنزوح.

مع دولِ الجوار، الحربُ تُفسدُ المزاجَ الدبلوماسيَّ، ومعها أيضاً لم يكنْ في يدِ غالبيةِ الفارّين من جحيمِها سوى جغرافيا الجوارِ الإفريقي، الذي تعاني شعوبُه بدرجاتٍ متفاوتةٍ من ذاتِ الأحوالِ التي دفعتْ السودانيين لعبورِ الحدودِ طلباً للنجاةِ المستحيلة.

وربما لو قُدِّرَ لهم اللقاءُ في الشريطِ الحدوديِّ مع مواطني دولِ اللجوءِ، لنصحوهم بأن لا اختلافَ في طعمِ الموتِ في الوطنِ أو خارجه، والذي هربَ منه اللاجئُ الكباشي إدريس في مدينتهِ في السودان، كان في انتظارهِ على أحرِّ من الجمرِ في معسكرِ كِرياندونقو للاجئين في بيالي اليوغندية.

رواياتُ الموت
رائعةُ غابرييل غارسيا ماركيز (سردُ أحداثِ موتٍ مُعلَنٍ) وجدت طريقها للمكتبات، وقد يكون عقلُهُ الروائيُّ قد اختلقها اختلاقاً ليُحاكمَ الضميرَ الجمعيَّ المتواطئَ بالصمتِ عن جرائمَ مُعلنٍ عنها مسبقاً، ولم ينجُ منها ضحاياها.

إلّا أن مكتبةَ حربِ السودان لم تُبِحْ بعدُ برواياتِ موتِ اللاجئين والنازحين السودانيين بسببها، في مدنٍ وبلادٍ فتحتْ مقابرَها لتواري القصصَ المأساويةَ للاجئين والنازحين السودانيين قبل جثامينهم.

من يطّلعْ على أحوالِ النازحين السودانيين في المدنِ المُسمّاةِ اصطلاحاً بـ"الآمنة"، سيَعرفْ بأن هنالك خللاً في منهجيّة تعريف الأمن والأمان؛ فهؤلاء نجَوْا من الرصاص، ولكن للحربِ ألفُ أداةٍ للقتل، منها بالطبعُ ظروفُ النزوحِ واللجوء. إلّا أن صحيفةَ الحربِ لا تنشرُ في عناوينها الرئيسةِ إلا إحصاءاتِ ميدانِ المعركة، أما النازحون واللاجئون، فهم عبءٌ يُثقِل كاهلَ الحكوماتِ التي تدّخرُ رصيدَها الماليَّ والدبلوماسيَّ لمهامِّ الحرب.

منهجٌ مختلٌّ ذلك الذي يخلطُ ماءَ الموقفِ السياسيِّ والدبلوماسيِّ آنَ الحربِ بزيتِ الموقفِ الإنسانيِّ من النازحين واللاجئين السودانيين، وإنْ كان ذلك يبرّرُ القطيعةَ السياسيةَ والدبلوماسية، فهو لا يبرّرُ التنصُّلَ من المسؤوليةِ ناحيةَ مواطنينَ سودانيينَ لم يكنْ لديهم الخيارُ في تحديدِ أوطانٍ بديلة؛ هي فقط الجغرافيا التي وجدوها أمامهم، فنزحوا أو لجؤوا إليها هائمين على وجوهِهم.

نتمنّى أن تكونَ الإجراءاتُ التي أعلنتْ عنها السلطاتُ الأوغنديةُ بمعسكرِ المأساةِ في كِرياندونقو، بالشراكةِ مع المفوضيةِ الساميةِ لشؤونِ اللاجئين (UNHCR) بعد الأحداث، هي نقطةَ تحوُّلٍ في التعاطي مع ظروفِ وقضايا اللاجئين السودانيين، والذين يدفعون كلفةَ الحربِ الباهظة.

إيقافُ الحربِ في السودان هو السبيلُ الوحيدُ لمعالجةِ هذه التعقيداتِ الإنسانيةِ التي يُعاني منها المواطنون السودانيون، ولإيقافِ نزيفِ الدمِ والأرواح بسببِها.

وستظلُّ الأرقامُ التي ترصدُ ضحايا الحربِ في تزايدٍ داخلَ وخارجَ جغرافيا الحرب، طالما أن الكلمةَ الآن للرصاصِ والمدافعِ وخطابِ الكراهية، وستظلُّ مدنُ ومعسكراتُ اللجوءِ والنزوح، بظروفِها التي نراها، عبارةً عن جغرافيا مقابر جماعية بقوائمِ انتظارٍ لضحايا سودانيين سنقرأ نعيَهم عما قريب، ونُنَكِّسُ أعلامَنا وأرواحَنا بحُزنٍ زائفٍ لا يكتبُ النجاةَ لضحايا الحرب المحتملين.

معرض الصور