
نساء تحت هجير القرارات السلطوية
خالد ماسا
على أيام ما قبل الحرب، وعندما كان الاصطفاف المدني يضع الحجر فوق الحجر لبناء التكوينات المدافعة عن الحقوق، ويقود معركته ضد انتهاك القيم المدنية في السودان في كل المجالات، أخرج هذا الاصطفاف واحدة من نساء هذا الوطن اختارت أن تتولى قيادة حماية حقوق شريحة تعوّد تخطيط الدولة أن يتجاوزها، وتعوّد القانون ومنفذوه أن يتسوروا حائط حقوقها متى ما شعرت يدُ السلطة بأن هنالك من استخفّ بهيبتها أو نازعها في سيف قراراتها، لتُفاوِض من يحملون السلاح، وتفتح لهم الفنادق والقصور، مقتسمين معها السلطة وثروات الشعب.
تلك كانت عوضية كوكو، والتي نعتبرها رمزية لفصيل النضال النسوي في السودان، بتقلّبات أوضاعه السياسية والاجتماعية التي تدفع النساء أولًا كلفتها قهرًا وإذلالًا وانتقاصًا للحقوق، والتي تجرأت وقالت "لا" في وجه قوانين التعسف والقهر والملاحقة لبائعات الشاي والأطعمة، ومضت إلى أكثر من ذلك، مدفوعة بالوعي بالحقوق المدنية وباصطفاف وطني نسوي عريض لتشكيل "الاتحاد التعاوني النسوي لبائعات الأطعمة والمشروبات".
ووقتها لم تكن عين السلطة التي تُبطِش تنظر إلى وجه المدينة التي تدّعي بأنهن شوّهن جمالها الموجود فقط في خيال المسؤولين، أو لأمنها الذي كانت تتهدده أشياء منظورة ويعرفها الجميع، وإنما كانت تنظر لما هو أخطر من ذلك، وترى بأنه التهديد الحقيقي الذي يدفعها لأن تتحسس كراسي السلطة التي تهتز عند ظهور أي وعي بالحقوق المدنية، خاصة بين النساء.
نظرت إليهن وقتها، ونظر إليهن الاصطفاف النسوي بأنهن وقبل أن تطالهن يد السلطة، ضحايا الدولة السودانية بحروبها ومجاعتها وقهرها للمرأة العاملة، وللظرف القاهر الذي تصنعه سلطة المجتمع، فكان انضمام ٨٠٠٠ منهن للاتحاد بذرة الوعي التي لا ترغب السلطة في أن تُثمِر يومًا ما في السودان.
معركة الوعي
لم تكن حدود هذه المعركة، التي دفع الاصطفاف الحقوقي النسوي كلفتها قمعًا وسجنًا واعتقالًا في الوقفات الاحتجاجية ودفع الغرامات والترافع أمام القضاء، بل كانت معركة صيانة الوعي في المجتمع السوداني تجاه حقوق المرأة وحقوق الضحايا اللواتي لا يُسمع صوتهن، في الندوات والكتابة المتجاسرة على سلطة القهر، إيمانًا بمبدأ أن الحقوق تُنتزع.
نساء كنّ وقتها ضحايا لحرب لم ترها العاصمة إلا في نشرات الأخبار، يتم التعامل معها بنفس الإحساس والتفاعل مع النشرات الجوية. نساء فقدن مصادر رزقهنّ الطبيعي بسبب الاقتتال على مقاعد حكم وسلطة لا تراهم، وفقدن بسببها الأزواج والأبناء، ولم يشفع ذلك لهنّ عند البحث عن الرزق الحلال في مدن ينام مواطنوها ويصحون على مزاجٍ مغليّ بالمياه المعدنية وبرائحة القرنفل والهبهان والسكر الخفيف.
سلطة قررت ابتداءً أن بائعات الأطعمة والمشروبات هنّ "مهدد أمني" قبل حتى أن تسأل عقلها: ما الذي يجبرهنّ على لظى هذه المهن وقساوة لقمة العيش الحلال في بلدٍ الحرام فيه يجد الحماية بنصّ القانون؟
صحيح، وفي جولات كثيرة، كان القرار السلطوي يكسب عن طريق القهر والإذلال و"الكشّات" والحملات التي يستلذ منفذوها بسلطتهم القاهرة على نساء هنّ في الأصل الأمهات والزوجات والأخوات، اللائي يستقبلوهم عند العودة براتب يهزمه حليب الأطفال وأنسولين المرضى ولكن..
ولكن العبرة في العادة تكون في نهايات معركة الوعي الذي لم ينقطع يومًا عن الحقوق في هذا البلد.
ضحايا منسيين
٢٣٠٠٠ من المشار إليهنّ، بحسب آخر الإحصاءات الرسمية، والرقم بالتأكيد سيكون مضاعفًا، في نشاط اقتصادي غير منظم، كانت الخرطوم بمثابة "طوق" نجاة وملاذٍ آمن يمكن فيه البقاء على قيد الحياة بالحدود الدنيا، وصراع يومي مع سلطة تراهم "دمامل" على وجه مدينتها.
لن تكترث خرطوم الحرب بما حلّ بهنّ بعد انطلاق رصاصة الحرب الأولى وانهيار المعبد على كلّ من فيه.
مصيرهن هو "النسيان"، كما تم نسيانهن في الحروب التي نشبت كلها، ودُفنت قصصهنّ المؤلمة في المدن والقرى والحلال التي نزحن منها. ولا نعتقد بأن مهن "رزق اليوم باليوم" يمكن أن توفر احتياطيًّا ماليًّا يُغطي رحلة نزوح وهروب أخرى، ناهيك عن اللجوء، فـتلك رفاهية عند من تُسمِّيهم السلطة في تعريفاتها بأصحاب المهن "الهامشية".
قرارات لا تعرف الرحمة
وفي زمن الحرب، التقديرات كلها بيد السلطة، وهي التي تعرف مصلحة الوطن والمواطن، وهي تقديرات ذات حصانة مطلقة، والطوارئ هي البديل لدولة القانون التي يطلبها مناصرو الحكم المدني، والذي ـ في تصور السلطة ـ يقلل من هيبة الدولة ويكف يدها التي تضرب.
وبسهولة، تصدر ولاية الخرطوم قرارها بحظر نشاط بيع الأطعمة والمشروبات، بمبررات لن يجرؤ أحد على مناقشتها، لأن الدولة في حالة حرب، وكعقاب على ذنب قديم تضمره السلطة في قلبها منذ ولادة الوعي الأول بالحقوق.
وبطبيعة الحال، سيكون الأمر محض استجداء للحقوق إن قلنا إن المتأثرات بقهرية هذا القرار في الغالب أزواجهنّ وفلذات أكبادهنّ في الخطوط الأمامية لمعركة "الكرامة"، منهم من استُشهد بشرف الجندية، ومنهم من ينتظر، وهو يعلم بأن الأم أو الزوجة أو الأخت ستسد فرقة عجز الراتب ببيع الشاي وتقديم الوجبات لرعاية "العيال".
وسيكون في الأمر استدرار للعاطفة إن قلنا إن القرار هو بمثابة قطعٍ للشريان الرئيسي المتبقي لكثير من الأسر التي لم تترك لها الحرب بابًا تطرقه للرزق الحلال.
قرارات تصدرها سلطة ولاية الخرطوم لتطال هذا القطاع الاقتصادي غير المنظم، وهي التي لا تمتلك خطة واضحة لعودة قطاعاتها المنظمة. وبالتالي، لن يصبح وجه قراراتها جميلًا بالاستدراك القائل بتشكيل لجنة لدراسة آثار القرار وتوفير مشاريع بديلة للمتأثرين.
خطط لم تتذكر هؤلاء في زمن السلم، وفي زمن لم تكن فيه المهددات الأمنية بحجم ما خلفته الحرب، فبالتأكيد ولاية الخرطوم بعد عامين من الحرب لن تتذكر بأن الحرب بحد ذاتها حرمت الكثيرين منهن من مزاولة نشاط يسد الرمق، وهن الآن محرومات من الظهير المدني الذي يمكنه أن يوصل صوتهنّ لأُذن أصحاب القرار، بأنهن مظلومات بالقرار وبدونه، وأن القرار فقط يهدد أمن ومستقبل ومصير أطفالهن في مدينة عزّت فيها مصادر كسب العيش الحلال.
القرارات ذات الطبيعة القهرية هي نتاج طبيعي للفراغ الذي توجده غياب مؤسسات الدولة المدنية وبنائها المتكامل، الذي يمثل سلطة الشعب في الرقابة والحماية. وهي استغلال للتشويش على الوعي التضامني وتجريمه، والتغطية على أصوات نساء يحملن على أكتافهن عبء اقتصاد الأسرة وحرب تُخاض على أجسادهن.