سلامٌ تتوق إليه الحياة
عبد الناصر فضل
هناك من يظن (وبعض الظن إثم) أن عودة الحرب إلى منبعها غربًا تعني مباشرة عودة الأمن والسلام والاستقرار إلى العاصمة وبقية مدن السودان وسطًا وشرقًا وشمالًا، وأن صمت أصوات الرصاص والقنابل والمدافع يفسح المجال لعودة الحياة إلى طبيعتها، والمجتمعات إلى رفاهيتها، في المناطق التي لم تعد آذان سكانها تسمع أصوات السلاح ووقع أقدام الجنود.
لكن الحرب، التي لا تزال مستعرة غربًا، لم تبارح هذه المدن، وإن صمت فيها صوت السلاح. وتجربتنا الحالية في أم درمان تؤكد أن الحرب باتت تعيش معنا في أدق تفاصيل حياتنا؛ فهي حاجز بيننا وبين الخدمات الأساسية، والمياه الصحية، والغذاء الجيد. لا تزال الحرب تتمدد فينا مع إشراقة كل صباح جديد؛ تقف معنا في صفوف الخبز، وتتجول في الأحياء محمولةً على ظهور الدواب، تحمل المياه الملوثة، وتجبرنا على استخدام أدوية منتهية الصلاحية. الحرب تسكن أمراض التخلف والتلوث في مجتمعاتنا، وتعمل بفقه "فرض العين"، لا تستثني أحدًا، صغيرًا كان أو كبيرًا.
لقد دمّرت الحرب البنية التحتية، ونسفت المدخرات الأسرية، وأصبح الإنسان في السودان بين مطرقة الفقر وسندان انعدام الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وعلاج وتعليم. وحتى المؤسسات الخدمية، التي لحقتها يد التعمير بعد تمدد الحرب غربًا وخفوتها وسطًا وشرقًا وشمالًا، أعادتها المسيرات والمدافع العابرة لعشرات الكيلومترات إلى عصور ما قبل التكنولوجيا.
وهذا يعيد تأكيد الحاجة الملحّة للسلام، والمسار المدني الديمقراطي، الذي تختفي معه كل تداعيات الحرب وتأثيراتها المباشرة على الحياة. بل تختفي قبل ذلك لغتها وأضرارها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية.
نعم، لقد أصبحت كثير من المدن، وعلى رأسها العاصمة المثلثة، خالية من قوات الدعم السريع، وهدأت فيها أصوات القنابل والمدافع، ولكن: هل تعافت تلك المدن، وعاصمة البلاد، من آثار الحرب وجحيمها؟ هل بدأ سكانها في العودة وممارسة حياتهم الطبيعية؟
الإجابة، بكل وضوح، لا.
لا تزال هذه المدن تنتظر إعلان السلام، الذي هو السبيل الوحيد نحو الحياة المدنية ورفاه الإنسان. فالسلام ضرورة وجودية، ليتوجه الإنفاق الضخم على الحرب نحو إعادة الإعمار، ولتنال البلاد مكافأة المجتمع الدولي على وقف الحرب، وتبدأ مؤسسات الاقتصاد العالمية والمنظمات الإنسانية في تقديم الدعم اللازم لإعادة الحياة ومحاربة الأمراض وأسبابها، وتأمين المواطن وممتلكاته، وتوفير بيئة مناسبة لتقديم الغذاء والعلاج، والمساهمة في خطة إعادة إعمار البنية التحتية.
لقد ضربت مسيرات الدعم السريع، العابرة للصحارى والفيافي، مولدات الكهرباء في مروي، فعمّ الظلام، وتعطلت مصالح المواطنين، وتعثرت سبل الحياة التي تشكل فيها الكهرباء حجر الزاوية والعمود الفقري للحياة المدنية.
أدى انقطاع التيار الكهربائي إلى انقطاع المياه، إذ إن جميع مصادر ضخ المياه تعتمد على الكهرباء. ومع انقطاع المياه، تدفقت الأمراض، وضربت المدن أكبر موجة لمرض الكوليرا، بسبب استخدام مياه ملوثة، معظمها من برك راكدة أو مختلطة بمياه الصرف الصحي، وتوزَّع عبر باعة متجولين يستخدمون براميل لا تنطبق عليها مواصفات نقل مياه الشرب وتخزينها. وهكذا تفشّت الأمراض المرتبطة بالتلوث والبكتيريا الضارة.
هنا في أم درمان، انتشرت الكوليرا تزامنًا مع فترة انقطاع التيار الكهربائي، وكان السبب الرئيس تلوث المياه. وشاهدنا عجز المستشفيات عن استيعاب المرضى والمصابين، فافترشوا الأرض، والتحفوا السماء، تحت أشعة الشمس الحارقة. ومع هذا التدهور البيئي، ارتفعت أعداد الموتى إلى أرقام مخيفة، اضطرت معها السلطات إلى إخفاء الأرقام الحقيقية.
كما انتشر مرض حمى التيفوئيد في أم درمان بصورة مقلقة؛ فبين كل ثلاثة مرضى يزورون المستشفيات، هناك اثنان مصابان بحمى التيفوئيد. وهذا مقياس حقيقي لدرجة تدهور البيئة وانتشار التلوث.
ومع كل خبر يتردد عن وقف الحرب، تصطف أحلام الناس وطموحاتهم وأشواقهم لسماع الخبر السعيد، عسى أن تتوقف المعاناة، أو تخفّ على أقل تقدير. عسى أن تبدأ عملية تحويل ميزانية الحرب إلى الخدمات، وأن يتجاوب العالم مع حربنا "المنسية"، ليشاركنا في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وإعادة ما يحتاجه المواطن السوداني من ضروريات الحياة.