14/07/2025

مدنيون تحت الحصار: عندما يصبح النزوح مصيرًا لا خيارًا

عبد الناصر فضل
في سياق الحرب الدائرة في السودان، ومع تصاعد القتال في مناطق بحري وشرق النيل، بدأت ملامح جديدة للحرب تظهر، تتجسد في الحصار والتجويع والضغط على السكان المدنيين، ما أدى إلى تغييرات جذرية في الأنماط الاقتصادية والاجتماعية، وانتهى بموجة نزوح جديدة هي الأشد قسوة منذ اندلاع الصراع.

أغلق الجيش السوداني جميع الطرق المؤدية إلى مناطق انتشار قوات الدعم السريع في بحري وشرق النيل، ضمن خطة تهدف إلى إضعاف هذه القوات عبر محاصرتها ومنع إمدادات الغذاء والمعينات الحياتية عنها. وقد شمل الحصار جسور الحلفايا وشمبات، إضافة إلى تأمين الطرق الإستراتيجية عبر ارتكازات مسلحة، واستخدام الطيران المسيّر لتغطية المناطق الممتدة من البطانة حتى حطاب والوادي الأخضر.

كان لهذا الحصار العسكري المحكم أثر مباشر على الوضع الإنساني في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، حيث أدى نفاد التموين والتشوين إلى اضطرار تلك القوات إلى الاعتماد على ما تبقى من الأسواق المحلية ومدخرات المواطنين، بما في ذلك مطابخ الفقراء والتكايا الخيرية. ومع شُح الموارد وتصاعد الضغط، اتجهت تلك القوات إلى اقتحام المنازل والمتاجر، ومصادرة المؤن، بل وممارسة العنف بحق السكان بحثًا عن الغذاء.

دفع المواطنون ثمناً باهظاً لهذا الصراع، حيث أصبحوا هدفًا مباشرًا، لا لشيء سوى وقوعهم في مناطق سيطرة طرف من أطراف النزاع. تعرّض كثيرون للنهب والضرب والاعتقال، وسط اتهامات ضمنية بالتواطؤ أو التعاطف مع الجهة المعادية. وكانت النتيجة حالة من الرعب العام، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، طالت حتى دور العبادة والمراكز الصحية.

وسط هذا الواقع القاسي، نشأت مبادرات محلية للمقاومة المدنية غير المسلحة، منها تجربة "حكومة دردوق الأهلية"، التي تأسست على القيم المجتمعية والدستور العرفي. سعت هذه المبادرة إلى حفظ الأمن، وتنظيم الأسواق، وضمان الحد الأدنى من الخدمات في ظل غياب الدولة. لكن مع تزايد الضغط واقتراب الخطر، لجأت لجنة المنطقة إلى إجراءات وقائية، مثل إفراغ السوق من البضائع وتخزينها، ونشر متاريس لحماية الأحياء من الاختراق الليلي.

رغم هذه الجهود، لم تنجُ المنطقة من اقتحامات متكررة، واعتقالات استهدفت نشطاء المجتمع وقادة التكافل المحلي، الذين اُعتبروا رموزًا للمقاومة المدنية. وشهدت المنطقة جرائم بشعة، من اغتيال إمام مسجد شاب، إلى مقتل كبار التجار داخل منازلهم، تلاها نهب واسع شمل كل شيء من الدواء إلى الأجهزة الطبية.

أمام هذا الانهيار الكامل للأمن، لم يبق أمام سكان دردوق سوى خيار النزوح، الذي لم يكن قرارًا، بل قَدَرًا. وهكذا نُزح النازحون من جديد، في مشهد يعكس عمق المأساة وتكرارها، ويطرح أسئلة مؤلمة عن مصير المدنيين العالقين في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

هذه التجربة، بكل ما تحمله من ألم، تسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى وقف شامل لإطلاق النار، وعودة الحكم المدني، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات. كما تذكّر بأهمية دعم مبادرات السلام المجتمعية، وإعلاء صوت المواطن، لا باعتباره رقمًا في إحصاءات النزوح، بل شاهدًا حيًا على معاناة متكررة، يجب أن تُسمع ويُستجاب لها.

معرض الصور