11/07/2025

الدستور العرفي وحكومة دردوق الأهلية المحلية

نصرالدين الفاضلابي
انتشرت في منطقة دردوق – حيث نقيم حاليًا بعد رحلة النزوح الداخلي – وما جاورها من المناطق التي شهدت هدوءًا نسبيًا، دوريات ليلية من المواطنين تهدف إلى حماية الممتلكات والأعراض والأعيان المدنية، والحفاظ على أمن المساكن وتأمين الشوارع للمارة من سكان المنطقة. وقد جاء هذا الفعل كنتيجة طبيعية للفراغ الأمني الذي تسببت فيه الحرب، وانسحاب قوات الشرطة من المشهد الأمني وانضمامها إلى صفوف القتال الأمامية ضمن قوات الجيش.

تطورت هذه الدوريات بمرور الوقت لتشمل تقديم مختلف الخدمات، نتيجة لما يمكن تسميته بـ"التفكير الجمعي للأهالي". وبما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد كان من الضروري اتخاذ خطوات عملية تلبي تطلعات الناس في استعادة مظاهر الحياة الطبيعية، ولو عبر قوانين عرفية تحافظ على السلم الاجتماعي وتنظم العلاقات بين المواطنين داخل مجتمعاتهم المحلية.

ساهمت هذه الدوريات في بسط الأمن النسبي، ولعبت دورًا مهمًا في تأمين المتاجر وضمان وصول السلع الغذائية إلى السوق المحلي وانسياب البضائع. ومن خلال هذا الفعل الأهلي، استطاعت المجتمعات المحلية أن تسد الفراغ التنفيذي الذي خلفه غياب الدولة بسبب الحرب، ونجحت في تجاوز الكثير من التحديات والصعوبات، مما خفف من وطأة الحياة القاسية في ظل النيران المستعرة، وفتح آفاقًا جديدة في إطار التفكير الجمعي لإنشاء لجان أهلية تلبي متطلبات الحياة المدنية.

تطورت أشكال التكاتف الأهلي إلى لجان خدمية، من بينها لجنة الكهرباء التي تولّت متابعة الأعطال البسيطة والأسلاك المقطوعة غير المرتبطة بالتوليد الكهربائي، وذلك بالاستعانة بخبرات العاملين في مجال الكهرباء ومعرفتهم بخريطة التيار والمحولات. وجمعت اللجنة التبرعات من الأهالي عبر تفعيل اقتصاديات التكافل الاجتماعي، واستخدمت تلك الأموال لدفع أجور العاملين وتوفير قطع الغيار الضرورية.

الكهرباء كانت بندًا أول في أولويات "الحكومة الأهلية"، لما لها من أثر مباشر على حياة المواطنين في تلك الظروف المعقدة. فتوفر التيار يعني استمرار إنتاج المخابز وتجنب أصحابها اللجوء إلى السوق السوداء للحصول على الوقود لتشغيل المولدات. كما يُمكّن توفر الكهرباء المواطنين من تخزين الطعام في الثلاجات، مما يخفف العبء المالي اليومي ويقلل من تكاليف المعيشة في ظل الظروف الاستثنائية.

وتوافر الكهرباء أدى بدوره إلى تشغيل ثلاث آبار ارتوازية كانت قد أُنشئت بجهد شعبي قبل الحرب، لتوفر المياه عبر الشبكة الرئيسية والفرعية للمنطقة، مما جنّب السكان مأساة العطش التي واجهتها مناطق أخرى.

تناسلت وتفرعت اللجان الأهلية، فأنشئت لجنة للسوق الرئيسي لمراقبة حركة البضائع وضبط الأسعار عبر تفعيل القانون العرفي، الذي تطور مع الوقت ليصبح دستورًا محليًا تفرعت عنه اللوائح والقوانين. وقامت اللجنة ببناء علاقات مع أصحاب الصيدليات لتشجيعهم على فتح محالهم لأطول وقت ممكن، وساعدتهم في توفير الأدوية، خاصة المنقذة للحياة، عبر الطرق الوعرة المؤدية إلى المدن الآمنة. كما شجعت المراكز الصحية على الاستمرار في تقديم خدماتها، مع التزام بعض الكوادر الطبية باستقبال الحالات الطارئة في منازلهم خارج ساعات الدوام.

ومن أبرز إنجازات "الحكومة الأهلية" افتتاح عدد من التكايا لتوفير الوجبات للأسر المتعففة، مستفيدة من دعم أبناء المنطقة في دول المهجر، سواء في الخليج أو في الدول الغربية. وأسهم هذا الدعم في تمويل خدمات الكهرباء والمياه والمراكز الصحية والعيادات الخاصة والصيدليات.

لقد أثبتت الحكومة الأهلية المحلية، بقوانينها العرفية المستندة إلى رضا الأغلبية، أن الناس بطبعهم يتوقون إلى الأمن والسلام، وأنهم قادرون، عبر التكافل والعمل الجماعي، على إعادة بناء ملامح الحياة المدنية حتى في غياب الدولة.

معرض الصور