
الخرطوم تتوسل بنداءات العودة الملغومة
يوسف عبد الله
في وقت وجيز وبلا مقدمات منطقية، فقد السودانيون عاصمتهم، الخرطوم. لقد تدمرت المدينة واستحالت الحياة فيها بشكل لا يمكن تخيله. صحيح هي لم تصل بخرابها إلى (سوبا) جديدة، ولا إلى (عصَّار) أخرى، لكن غادرها السكان لجوءا ونزوحا بسبب الحرب مثلما غادروا مدن أخرى كثيرة، ولا يمكن تحديد التوقيت والكيفية التي سيعودون بها مرة أخرى.
وما يتدواله الناس الآن بخصوص العاصمة هو الدعاية السياسية التي تحث السكان للعودة إلى إعمار ما دمرته الحرب. وتقول الدعاية، بكل سخرية، إن الحكومة الولائية مستعدة لتسليح المواطنين لحراسة بيوتهم من السرقات بالأصالة.
في صبيحة 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الجيش ومليشيا قوات الدعم السريع من العاصمة. ورغم الإرهاصات والمظاهر الواضحة التي سبقت اندلاعها إلا إنها كانت مفاجئة بالنسبة للكثيرين، فيما خمن البعض ممن يتابع السياسة بإنها ستكون حرب خاطفة، وشبيهة بالعملية العسكرية التي جرت حين تمردت (هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن) في يناير 2020 وتم حسمها عسكريا في ثلاثة أيام.
لقد خيبت الحرب تخمينات كثيرة، وسرعان ما خلقت حالة إرباك في التعامل مع أصوات الرصاص والانفجارات العنيفة. في بادئ الأمر، التزم الناس بيوتهم. ومع إمعان الحرب في الاستمرار اختاروا بدلا عن ذلك الابتعاد قليلا إلى الأحياء البعيدة من المعارك وثكنات الجنود، ثم نازحين إلى الأقاليم الآمنة، ثم إلى خارج البلاد في رحلة لجوء قاسية ومذلة.
وتقول معتمدية اللاجئين في السودان إن 10 ملايين من السودانيين نزحوا منذ بدء الحرب، منهم مليونا لاجئ عبروا الحدود إلى دول الجوار.
حتى بعد مر 25 شهرا لم تنته الحرب، ولم تنتف أسبابها، وما زالت حبلى بالتداعيات، فما زال الجيش يقاتل من أجل السيطرة على مناطق أوسع لتنضاف إلى العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة وبقية المناطق التي استعادها من سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع. لكن مع ذلك انطلقت النداءات من أجل العودة إلى الوطن، خصوصا إلى العاصمة الخرطوم. وقرر البعض الاستجابة لهذه النداءات.. فماذا يعني أن يرجع الناس؟
في الواقع، لكن تكون هناك إجابة مكتملة، وليس من المتاح تكوين رأي عام حول العودة لأن البعض ممن تتاح لهم الفرصة ما زالوا مترددين حولها. لقد قرر البعض العودة ليس من أجل شيء مكتمل، ومن الأرجح أن الغالبية من المتحمسين أصابهم الملل من فركة وجودهم "خارج المكان" بالمعنى الأعمق لمقولة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد وما فيها اغتراب وتوهان وفقدان قيمة.
قرر البعض العودة إلى بيوتهم المدمرة كليا وإلى الشوارع التي لم تعد هي الشوارع نفسها، وإلى حالة أمنية ليست في أفضل مستوياتها. ومع ذلك، لا تتبين في الأفق أي نوايا واضحة أو ملمح لخطة سياسية لتحفيز وإنقاذ الاقتصاد اليومي المعدوم و(نتيجة للحرب المستمرة، لم تتمكن الحكومة من الإعلان عن معدل التضخم، لكن هناك ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات وانقطاع شبه دائم للكهرباء).
لم تبد مؤسسات الضمان الاجتماعي، على سبيل المثال، استعدادا للمسارعة بتعويض المتضررين. ففي الواقع ما زالت الدولة منشغلة بالحرب في المناطق التي لم يسيطر عليها الجيش بعد، وهنا سيغيب النقاش حول أي التزام يمكن أن يطالب به الناس؛ فعمليا، كل شيء موجه "للقضاء على التمرد ومن ساعده وعاونه..."
قرر البعض العودة في ظل مثول الحقائق التالية: انكماش الناتج الإجمالي المحلي بنسبة تصل إلى أكثر من 20.3% كما يقول تقرير صندوق النقد الدولي، وهي نسبة أعلى من 18.3% المسجلة للعام 2023، مع توقعات بانكماش إضافي. إلى جانب ذلك، أدت الحرب إلى زيادة معدلات البطالة التي وصلت إلى 46% في العام 2023 ومن المتوقع أن تصل إلى 58% منذ نهاية العام 2024. وتضرر القطاع الصناعي في الخرطوم بشكل غير مسبوق، حيث تم تدمير حوالي 80% من البنية التحتية للقطاع، مما أدى إلى محو الكثير من فرص العمل في هذا المجال.
قبل أن تندلع الحرب وتشل قدرة الدولة، لم تكن المؤسسات سخية في تقديم الخدمة الكافية لجمهورها من المواطنين، وقلما تعتبرهم أصحاب حق. ولأكثر من نصف قرن أو يزيد، كان تاريخها هو تاريخ من التسويف والمماطلة وانعدام المحاسبة.
لقد عبر السياسيون كثيرا عن هذا الانهيار للمؤسسات، وكُتبت آلاف الدراسات الأكاديمية والمواقف السياسية حول إصلاح مؤسسات الدولة. وبالطبع يعرف المواطنون أكثر من غيرهم معنى إنهيار المؤسسات، لقد عايشوه كفاحا. كل هذا كان يحدث قبل أن تندلع الحرب على نطاق واسع وتدمر ما قيمته 200 مليار دولار، طبقا لبعض التقديرات، وقد شمل التدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية والمؤسسات، بما فيها المستشفيات والمصانع والجسور.
إذا تركنا الكثير من الترف المرجو بشأن العودة فإن تجربة الرجوع إلى الأوطان تحقق معناها حين يجد الراجع من يستقبله فرحا برجوعه ويمهد له بما يعطي رجوعه دلالة ومعنى، وإلا فإن سودانيين كثير لا يتهيبون فكرة الأوطان البديلة.