
رحلة الهروب عبر الموت والفوضى
نصرالدين الفاضلابي
كان طريقنا من حي جبرة المجاور للمدرعات إلى منطقة دردوق شرق بحري محفوفًا بالمخاطر وقبح المناظر. وتلك الضاحية القصية التي كنا نصلها في الظروف العادية خلال 45 دقيقة كأقصى حد، وصلناها في ذلك اليوم الكئيب في 13 ساعة بالتمام والكمال.
خرجنا من جبرة تحت أزيز المدافع وأصوات حوافر المجنزرات وهي تستعد للدخول في المعارك. وما أصعب أصوات المجنزرات على يقين الإنسان وثباته، وما أقسى مناظرها وهي تنهب الأرض وتثير غبار الرعب، وتقضي على آخر شعرة من يقين المواطنين في رحلة الهروب الجماعي.
كان الطريق محفوفًا بالمخاطر، وعلى أطرافه ارتكازات لقوات الدعم السريع، ونقاط تفتيش، وأسئلة ليست بغرض الحصول على إجابات، بل للاستفزاز وإثارة حفيظة "الهاربين" من ويلات الحرب وسعير نيرانها المشتعل.
ولعل أكثر الأسئلة استفزازًا وثباتًا في كل نقطة تفتيش: "لماذا خرجتم من منازلكم؟"
وقبل أن تجيب هذا السؤال العجيب، تأتيك الإجابة من السائل نفسه: "ديل ناس الجيش قالوا ليكم أطلعوا عشان نضرب الجماعة ديل بالطيران صاح."
هنا، الصمت هو أفضل إجابة، لأن أي رد آخر قد يقودك إلى الاعتقال أو الضرب أو الشتم كأخف عقوبة.
وصلنا إلى أطراف السوق المركزي في طريقنا إلى كبري سوبا، المنفذ الوحيد نحو الضفة الأخرى من النهر، فقد كانت المعارك محتدمة حول جميع الجسور بالعاصمة المثلثة، وهي معارك كسر العظم للسيطرة على المنافذ.
ولعل أقدار الله ورحمته صنعت للهاربين منفذًا عبر كبري سوبا، وكان وقتها خاليًا من أي مظاهر عسكرية، ويستقبل مواكب الهروب الجماعي بكل رحابة صدر وأريحية.
السوق المركزي انتشرت فيه "الفوضى الخلَّاقة": عمليات نهب كبيرة للمتاجر والأسواق والمطاعم، ومجموعة من التجار يسابقون الزمن وهم يحملون بضائعهم بعيدًا عن مخازنها اتقاء شر اللصوص وسكان الشوارع والطرقات العامة والمجاري والخيران.
وصلنا إلى محاذاة مستشفى سوبا الجامعي بعد أن عبرنا أكثر من 15 ارتكازًا للدعم السريع. وهناك، شاهدنا العجب: كيف خرج أكبر مستشفى مرجعي في السودان عن الخدمة، واللصوص يخرجون من داخله يحملون أدوات طبية لا يدركون قيمتها، ولا إلمام لهم بوظيفتها وأهميتها.
في طريقنا إلى كبري سوبا، وقفنا على عملية استبدال الحياة الحضرية والعوامل السكانية بالفوضى، والسرقة، والانتهاكات الإنسانية، والموت المجاني.