
شرارة الحرب وبدايات النزوح
نصرالدين الفاضلابي
فجأةً ودون سابق إنذار، انشقَّت الأرض واهتزَّت المباني والمعاني، وازداد خفقان القلوب، والمدرَّعات التي تجاورنا في السكن ترسل قذائف الهاوزر مثنى وثلاث ورباع في عدة اتجاهات. والكل يطلق السؤال الحائر: ماذا هناك؟
الإجابة كانت مبذولة على شاشات قناتي الجزيرة والحدث، ومراسل الجزيرة أسامة سيد أحمد الذي كان يتحدث على الهواء مباشرة عن تفاصيل ما يجري، أطلق عبارة: "الآن بدأت الحرب بين الجيش والدعم السريع."
ومع دخول القناة في عمق تفاصيل ما هو موجود على الميدان، واندلاع فتيل الحرب، دخلنا نحن قلب المأساة. ازدادت حدة الأصوات وفظاعتها، ومن لم يعايش لحظات الزلازل الأرضية المدمِّرة من قبل، عاشها مضاعفةً لحظة "انفصال" المدافع، وهي لحظة انفصال الإنسان عن ثباته وتفكيره ووعيه. إنها لحظات القطيعة الأبدية بين الإنسان والأمان.
بدأت ملامح كوارث الحروب في الظهور علنًا، بكل تأثيراتها المميتة على البشر والبنية التحتية والبيئة. وكانت أولى الكوارث، القرار الجماعي لسكان تلك الأحياء بـ"النزوح"، لا خيار آخر. الجميع الآن يدفع ثمن أخطاء الساسة، والوزراء التنفيذيين، وإداراتهم المتعاقبة في تخطيط المدن وتوزيع الأراضي السكنية بجوار الوحدات العسكرية.
وحدة عسكرية (مقاتلة) بحجم المدرعات، أقوى قلاع الجيش السوداني، تحيط بها الأحياء السكنية من كل الاتجاهات. وحتى مساحاتها الشاسعة اقتُطع منها جزء ليُباع في مزادات الأراضي الاستثمارية للمواطنين، ليستنسخوا أحياء جديدة دخلت هي الأخرى دائرة الخطر واحتمالات الكارثة مع أي نزاع عسكري جديد حول السلطة. كما اعتادت أحياء الشجرة واللاماب وجبرة والصحافات والعزوزاب معايشة أجواء الموت والدمار في زمن الانقلابات العسكرية والصراعات الدامية على كرسي رئاسة الدولة السودانية.
اصطفت العربات، وضاقت الأرض بما رحبت، بعد قرار الهجرة الجماعية وترك المنازل والمتاجر وأماكن العمل، والنزوح نحو المجهول.
حملنا القليل من الأمتعة وخرجنا من منزلنا لأول مرة مجبرين ـ وهو حال وشعور جميع النازحين ـ وفي نظراتنا وداع حزين، دون تحديد موعد للعودة. وفشل كل من سلك طريق النزوح في الإجابة على السؤال الحائر: متى العودة؟
الإجابة هذه المرة، خلافًا لسابقاتها، بيد من يحملون أدوات الموت، ومن يضغطون على الزناد، ومن يتمترسون خلف المدافع ويسكنون الخنادق.