06/07/2025

إعادة تشكيل النظام الصحي في السودان في ظل الحرب

نحو تعزيز الرعاية الصحية الأولية وتفكيك المركزية العلاجية

لؤي عمر الريح (طبيب)

الملخص

أسفرت الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023 عن انهيار واسع في النظام الصحي، خاصة في العاصمة الخرطوم التي كانت تمثل مركز الثقل للخدمات العلاجية المتقدمة. غير أن هذه الكارثة الإنسانية كشفت في الوقت ذاته عن فرصة تاريخية لإعادة هيكلة النظام الصحي على أسس أكثر عدالة ولامركزية. تقدم هذه الورقة رؤية استراتيجية لإصلاح ما بعد الحرب، ترتكز على تعزيز الرعاية الصحية الأولية وتفعيل دور الولايات، بالاستفادة من تجارب دول كاليمن، سوريا، وأفغانستان، التي أعادت بناء أنظمتها الصحية وسط النزاعات.

المقدمة

قبل اندلاع النزاع، عانى النظام الصحي السوداني من تركز مفرط في العاصمة الخرطوم، حيث احتضنت المدينة نحو 65% من المستشفيات المتخصصة ومراكز العلاج المرجعي. وكانت الولايات الأخرى تعاني من ضعف مزمن في البنية التحتية الصحية، ما جعلها تعتمد بشكل شبه كامل على التحويلات الطبية إلى الخرطوم. ومع اندلاع الحرب، تعرضت البنية الصحية في الخرطوم لتدمير واسع؛ إذ توقفت أو تدمرت أو نُهبت نحو 70-80% من منشآتها الصحية، في حين تأثرت حوالي 45% من المرافق الصحية في ولايات أخرى. وفي خضم هذا الانهيار، بدأ يتشكل واقع جديد يقوم على إعادة الاعتبار لمراكز الرعاية الصحية الأولية، وخلق فرص لإصلاح هيكلي أكثر شمولاً وتوازناً.

منهجية الدراسة

تعتمد الورقة على تحليل نوعي يجمع بين مراجعة الأدبيات الصحية في السياقات الهشة، وتحليل تقارير المنظمات الدولية والوطنية حول الأوضاع الصحية في السودان منذ اندلاع الحرب، إلى جانب دراسة تجارب دول عاشت نزاعات طويلة وأعادت بناء أنظمتها الصحية على أساس لامركزي ومجتمعي.

نتائج وتحليل

1. الانهيار كفرصة لإعادة التوجيه

شهد عام 2023 وقوع 257 هجومًا موثقًا على منشآت الرعاية الصحية في السودان، مقارنة بـ54 فقط في عام 2022، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة "إنسيكيوريتي إنسايت". وخلال النصف الأول من عام 2025، تم تسجيل 38 هجومًا أسفر عن مقتل 933 شخصًا، بينهم أطفال، وإصابة 148 آخرين.

هذا الانهيار أدى إلى:
ارتفاع الاعتماد على مراكز الرعاية الصحية الأولية، بعد توقف 80% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة.

نشوء شبكات صحية بديلة بإشراف إدارات محلية ومنظمات مثل "أطباء بلا حدود" والهلال الأحمر.

ابتكار آليات مجتمعية بدائية لنقل المرضى والتعامل مع الطوارئ في ظل غياب سيارات الإسعاف.

عودة الرعاية الأولية كخيار استراتيجي وإنقاذي، مستندة إلى إعلان ألما-آتا (1978) وإعلان أستانا (2018).

2. دروس من تجارب دول أخرى

أفغانستان: تفويض إدارة الرعاية الأولية للولايات ساهم في رفع تغطية اللقاحات بنسبة 57% وخفض وفيات الأطفال بـ28% (Newbrander et al., 2014).

اليمن: دعم المجتمع الدولي للرعاية الأولية مكن من استمرار 70% من الخدمات رغم توقف المستشفيات الكبرى (Conflict and Health, 2021).

سوريا: غياب الدولة بين 2013 و2018 أدى إلى نشوء نظام صحي مجتمعي مرن بتمويل من الشتات والمنظمات غير الحكومية (Kherallah et al., 2012).

3. تفكيك المركزية الصحية كضرورة لبقاء النظام

المركزية المفرطة للنظام الصحي السوداني كانت من أبرز نقاط ضعفه. ومع خروج الخرطوم من الخدمة، اضطرت الولايات إلى:

تولي مهام التوظيف وتوزيع الموارد وضبط الأدوية محليًا.

إطلاق وحدات إسعاف وعيادات متنقلة بشراكات محلية ودولية.

أظهرت الدراسات أن اللامركزية تعزز من فعالية النظام الصحي في الدول الهشة، من خلال تقليص الفجوات وتعزيز الاستجابة (WHO, 2023).

نقاش: هل تمثل الأزمة فرصة لإعادة البناء؟

رغم الدمار الهائل، فإن الأزمة فتحت الباب أمام إصلاحات طال انتظارها:

تحرير النظام من الجمود الهيكلي السابق، وتجاوز الاعتماد الحصري على البنى المركزية.

إرساء نماذج أكثر مرونة ولامركزية، مثل العيادات المتنقلة والشبكات الصحية المجتمعية.

تعزيز المشاركة المجتمعية في الصحة، بما يتماشى مع التوصيات الحديثة حول "الاستجابة الصحية في حالات النزاع".

لكن هذه التحولات ليست تلقائية أو مضمونة، بل تتطلب:

تمويلًا مباشرًا للرعاية الصحية الأولية، لسد الفجوة الكبيرة في الموارد.

تدريبًا سريعًا ومحليًا للكوادر الصحية، لتعويض الفاقد البشري نتيجة الهجرة والنزوح.

تفويضًا حقيقيًا للولايات لإدارة الأنظمة الصحية، وبناء قدراتها الفنية والإدارية.

الخاتمة

إن الحرب الجارية، رغم ما خلفته من معاناة، أتاحت فرصة لإعادة بناء النظام الصحي السوداني على أسس أكثر عدالة وكفاءة. لقد أثبتت الأزمة ضرورة تعزيز الرعاية الصحية الأولية، وتفكيك المركزية العلاجية، وتوسيع صلاحيات الولايات، بما يحقق نظامًا صحيًا resilient ومتوازنًا يخدم كل أقاليم السودان. إن تحويل هذا التحول إلى واقع دائم يتطلب قيادة سياسية جادة، وتمويلًا دوليًا مستدامًا، ورؤية واضحة لمرحلة ما بعد النزاع.

معرض الصور