
مزامير غرف الطواريء والعمل الطوعي في السودان
خالد ماسا
(*) محامِل سوء الظن الحكومي
لثلاثة عقود ونصف مضت لايغيب على فطنة المتابع بأن العقل الرسمي والحكومي في السودان ظل أسيراً لمنهجية التفكير الأمني الذي يفسر أي حراك في المجتمع وبعيد عنه بالعقل الأمني المُرتاب حتى في ظلّه وظل هذا المنهج هو الطريق الأقرب والاسهل حتى لمؤسسات الدولة ذات الطبيعه المدنية وذات العلاقة المباشرة بالمواطنين لتنفيذ سياساتها والاعلان عن وجودها دون ان يُرفع في وجهها سبابة السؤال عن واجباتها ومسؤولياتها تجاه المجتمع وصار موظفيها يؤدون هذا الفرض ولم يتبقى لهم سوى إرتداء البزات العسكرية وحمل السلاح.
ولو قرأنا في بيان حكومة ولاية الخرطوم الصادر بتاريخ 12 / 5/ 2025م والذي توعدت فيه بالحسم التام لأي كيان أو مبادرة للعمل الطوعي لم تقم بالتسجيل لدى مفوضية العمل الطوعي والإنساني وهي الجسم الحكومي المسؤول عن تسجيل المنظمات والمبادرات والذي إبتدعته سابقاً بنوايا محاصرة العاملين في الانشطة الطوعية والانسانية ولم يستطيع كاتب البيان الحكومي أن يمنع ما تستبطنه حكومته في البيان فجاءت سطور البيان لتضع تُهمة التكسُّب باسم المواطن في وجه كل من لم يؤدي فروض الولاء والطاعة للجهاز الحكومي.
محامِل سوء الظن هي تلك التي لاتغيب عن الخطاب الرسمي والحكومي تجاه المتطوعين وفوانيس المجتمع الطوعي كلما كشف أدائهم عُري الاداء الرسمي والحكومي في نكبات الوطن المستمرة والذي ظل المتطوعين والعاملين في كل التكوينات الطوعية التي عرفها المجتمع السوداني منذ تأسيس الدولة السودانية في التكايا والنفير وغرف الطواريء يسترون عوراتها بمخاطبة كل قُروح المجتمع السوداني بطرق كل أبواب الخير التي فيه.
( *) التكايا وغرف الطواريء، أثقلت تيجانكم الرؤوس
هي العادة التي لن يخرج عنها البيان الحكومي والذي لم يتعلم من العالم بأن لغة البيان هذه ليست المسار الصحيح لضبط العمل الطوعي وتوجيهه لتعظيم أدواره المجتمعية فالذي يقرأ في خطاب الأمين العام لمنظمة الامم المتحدة / أنطونيو غوتيرش والذي وصف تحديداً أدوار العاملين في العمل الطوعي والانساني في السودان بالدور البطولي ولم تتوقف لغته العالية والحساسة تجاه إحترام قيمة هذا العمل الانساني وقال أن هناك أكثر من 700 غرفة طوارئ في السودان، وهي مثال ملهم للعمل الإنساني الشعبي. يُظهر التزام هؤلاء الرجال والنساء جانباً آخر من السودان، يتمثل في أفضل ما في الإنسانية، على الرغم من الأزمات التي يواجهها البلد.”.
وفي الوقت الذي تتصدر فيه أخبار هذا البلد المنكوب عناوين الاخبار في العالم بأخبار القتل والسحل وتُهم تقشعر لها أبدان الشعوب وضعت غرف الطواريء السودانية التاج على راس الشعب السوداني بحصولها على جائزة ريتشارد سي. هولبروك، التي تُمنح سنويًا من قبل منظمة Refugees International، تكرم بها الأفراد والمنظمات المحلية التي تقدم خدمات استثنائية للنازحين واللاجئين وضحايا الحروب.
لغة تشويه السُمعه السُلطوية وفقه "دس المحافير" لن تقدم الطعام والشراب والعلاج للمحتاجين من ضحايا الحرب والصراع السياسي منزوع الأخلاق، ولن تغطي على يد السلطة المغلولة إلى عنقها الى حد فساد المواد الأغاثية الغذائية في المخازن أو فضيحة تسربها للأسواق بعد إمتداد أيادي الخير من الدول التي تعي عظمة العمل الطوعي والانساني، وتقدر قيمة مجهود العاملين في المجال الانساني والذين قدموا أرواحهم في سبيل تعظيم قيمة العمل الانساني وفي سبيل تضميد جراحات شعب وجد نفسه خارج المسؤولية الرسمية في مأكله ومشربه وعلاجه.
(*) رمتني بدائها وإنسلّت
عبارة "التكسب باسم المواطن" التي دُفِع بها في البيان الرسمي لم تكن من باب العجز اللغوي لكاتب البيان أو لعدم حساسيته تجاه العمل الانساني بل هي الأصل في البيان والباقي هو الفروع. هي من قبيل التهم المجانية التي يُدفع بها للتغطية على أسئلة المواطن الذي أدهشته المواد الأغاثية وهي تُباع في السوق وتنصّل مفوضية العون الانساني من مسؤوليتها بادعاء أن ماحدث هو مسؤولية الأفراد وليس ضمن منهجيتها وسياساتها.
يحرص البيان الحكومي كعادته الى جر منظمات العمل الطوعي والانساني الى الخضم السياسي والذي لاتتسق شروطه وأحكامه وقيمه مع شروط واحكام وقيم العمل الانساني الطوعي.
الخضم السياسي لايتورع في التعامل مع الازمات الانسانية على أساس أنها أحد أوراق الكسب السياسي يلعب بها، وياخذه الظن بان الأخرين يستخدمونها ذات الاستخدام، ولذلك لم يكن مستغرباً ردة الفعل على كل المؤشرات الدولية التي تقيس مستويات المجاعة في كل الازمات في العالم وتقاريرها حول الحالة السودانية التي صنعتها الحرب فاخذتها لمنصات تصنيع الخطاب السياسي والملايين من النازحين من مناطق الحرب أو الذين لم تكتب لهم النجاة من ويلات الحرب لايجدون ما يسد الرمق إلا من مجهودات غرف الطواريء والتكايا الذين يضبطون ساعات حضورهم بالغياب الرسمي والحكومي وبالقيم التي تعلموها بالتراكم من المجتمع السوداني.
( *) التوقيع في دفتر الغياب
تفاعُل السودانيين في دول المنافي والاغتراب ورضى وتقييم المنظمات العاملة في مجال العمل الانساني مع مجهودات العاملين في التكايا وغرف الطواريء هو معيار الثقة الذي تفتقده الجهات الرسمية وشهادة الانجاز لكل العاملين في العمل الطوعي والانساني الذين لم يتكلف البيان الرسمي وغاب عن إدانة قتلهم واعتقالهم والتضييق عليهم لما كانت جغرافيا الخرطوم مُحتلة وكانت تهمتهم الجاهزة هي التعامل مع القوات المسلحة وبسببها فقدوا الارواح.
(*) أسئلة ليست للإجابة
صدور هذا البيان في التوقيت من الأزمة السودانية وبهذه اللغة هل في الاعتقاد بانه سيكون إشعار إضافة للحالة الانسانية السودانية. وهل هنالك مؤشرات ومقاييس رسمية لدى كاتب البيان تقول بأن توقف التكايا وغرف الطواريء لن يكون مؤثراً على المستفيدين؟
هل من الممكن أن تكون لغة "التكسب بأسم المواطن" جاذبة ومحفزة للشباب والشابات المنخرطين في مساعدة الشعب السوداني منذ اليوم الاول في الحرب أم ستكون هي جبهة جديدة تضاف لجبهات الأسر والاعتقال والقتل المجاني ونقص الموارد التي يقاتلون فيها؟
وهل باستطاعة آلية الحسم التام التي جاء بها البيان الرسمي ان تسد الفراغ الذي سيتركه خروج وتوقف التكايا وغرف الطواريء والعاملين بها وان لديها من الخبرات والقدرات ما يعوض ذلك؟
على قدر ما أُبتلينا بعتمة الحرب وصراعاتنا السياسية التي لاتنتهي والتي أورثت شعبنا الفقر والجوع والمرض والنزوح واللجوء وعرضتنا أمام العالم بمظهر المحتاج الدائم للاغاثة والدعم الانساني يجب علينا أن نحمي شمعاتنا التي تضيء في العمل الطوعي والانساني وأن نكون حفيين بأننا نملك هذه الثروة التي ظلت على الدوام جبيرة خاطرنا الوطني المكسور.