27/04/2025

السودان بين نيران الحرب وخطاب الكراهية: هل نحن على أعتاب كارثة وجودية؟

د. أنور يوسف
كلية علوم الادارة والاقتصاد
جامعة البطانة

في واحدة من أحلك لحظات التاريخ السوداني الحديث، يتعرض السودان اليوم لتحديات وجودية متشابكة، تجمع بين الحرب، والانهيار الاقتصادي، والتفكك المجتمعي، والانقسام السياسي، والاحتراب الأهلي. وفي خضم هذا الوضع الحرج، يبرز خطاب الكراهية كأحد أخطر الأدوات التي تهدد ما تبقى من أواصر الوطن، وتدفع بالسودانيين إلى حافة الهاوية.

يُتبنّى خطاب الكراهية اليوم في السودان من قِبل أطراف متعددة، بعضها معلن، والآخر يعمل من خلف ستار. تتوزع هذه الجهات بين كيانات سياسية، وحركات مسلحة، ونشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، ومؤسسات إعلامية محلية وخارجية. يستخدم هذا الخطاب كأداة لتغذية الصراع، وشحن العواطف، وتوسيع هوة الانقسام بين مكونات المجتمع، على أساس عرقي أو جهوي أو ديني أو ثقافي.

في قلب هذه الموجة المتصاعدة من الكراهية، نجد توجّهات تسعى لشيطنة الآخر، وتجريده من إنسانيته، وتبرير الإقصاء أو الإبادة بحجج تتراوح بين "الحق التاريخي"، و"الرد على الظلم"، و"التحرر من الهيمنة".

توقيت تصاعد هذا الخطاب ليس بريئًا. فالسودان، بعد أن دخل مرحلة انهيار الدولة، بات ساحة مفتوحة لصراعات المصالح والنفوذ. في مثل هذا المناخ، يصبح تأجيج الانقسام أداة فعالة لإضعاف الجبهة الداخلية ومنع أي إمكانية لإعادة بناء دولة موحدة.

وهنا يبرز سؤال مشروع: هل من يقف خلف هذه الحملات يُعبّر فعلًا عن تطلعات محلية، أم أن هناك نيات خفية تتجاوز الحدود؟ هل أصبح السودان هدفًا لمشاريع تفكيك ممنهجة تقودها جهات خارجية لها مصلحة في أن يبقى هذا البلد ضعيفًا، ممزقًا، غارقًا في صراعاته الأهلية؟

في ظل فوضى الإقليم وتبدلاته الجيوسياسية، يطرح البعض فرضية التآمر على وحدة السودان. ليس سرًا أن السودان، بثرواته وموقعه الاستراتيجي، لطالما كان محط أطماع إقليمية ودولية. ومع انهيار منظومات الدولة، دخلت البلاد مرحلة الفراغ الاستراتيجي، الذي تغذيه استخبارات خارجية، وتموله قوى ذات أجندات متشابكة.

بعض الأصوات تذهب إلى حد الربط بين ما يجري في السودان وبين تصورات أكبر لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يُعيد رسم خارطة المنطقة على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، ضمن ما يُسمى بـ"الفوضى الخلّاقة". في هذا السياق، ليس مستبعدًا أن يكون خطاب الكراهية إحدى أدوات تنفيذ هذه الرؤية.

رغم أن الحديث عن الماسونية والنظام العالمي الخفي قد يبدو للبعض من باب نظرية المؤامرة، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى تناغم مريب بين ما يحدث في السودان وبين نماذج مشابهة جُرّبت في دول أخرى، أُجهضت فيها الدولة الوطنية، وحلّ محلها كيانات فاشلة تُدار بالوكالة، وتُستخدم كبيادق في لعبة أمم قذرة.

الخطاب العنصري والكراهية المنظمة، المموّلة، المنتشرة عبر قنوات الإعلام والسوشيال ميديا، ليس مجرد انفعال عابر، بل جزء من منظومة أوسع تسعى إلى "هندسة الخراب" في دول مثل السودان.

دروس من التاريخ: نماذج دولية دفع فيها خطاب الكراهية شعوبًا إلى الجحيم

1. رواندا
* الإبادة الجماعية ضد التوتسي نتيجة خطاب تحريضي وشيطنة إعلامية.
* 800,000 قتيل في أقل من مئة يوم.
* انهيار الدولة ونزيف طويل الأمد.

2. يوغوسلافيا السابقة
* تأجيج الهويات القومية والدينية أدى لحروب ومجازر.
* مجزرة سربرنيتسا مثال دامٍ.
* تفكك الدولة، وتدخل دولي، ومحاكم جرائم حرب.

3. بورما (ميانمار)
* خطاب الكراهية ضد الروهينغا أسفر عن تهجير جماعي ومجازر مروعة.
* صمت دولي وتواطؤ تقني عبر منصات التواصل.

4.سوريا والعراق
* الطائفية السياسية غذّت الإرهاب والتفكك.
* دولتان فاشلتان بحكم الأمر الواقع، وملايين اللاجئين.

في ضوء التدهور الحاصل وتصاعد خطاب الكراهية، يُمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل السودان، تتفاوت في خطورتها، لكنها جميعًا تحمل مؤشرات مقلقة:

1. الحرب الأهلية العرقية المفتوحة
ـ مع تصاعد الشحن العنصري والجهوي، واحتمال فقدان السيطرة على الأطراف المسلحة، قد ينفجر الوضع في شكل صراع دموي مفتوح بين مكونات إثنية.
ـ هذا النوع من الصراعات لا يُحسم عسكريًا، بل يستنزف الجميع ويُغذي دوائر الانتقام.

النتائج المتوقعة:
ـ إبادة جماعية محتملة.
ـ نزوح جماعي إلى دول الجوار.
ـ تدخل إقليمي ودولي قد لا يكون لصالح السودان.

2. التفكك الجغرافي والسياسي
ـ استمرار تغذية خطاب المناطقية والجهوية قد يدفع إلى مطالبات متزايدة بالانفصال أو الحكم الذاتي، مما يعجّل بتقسيم السودان إلى كيانات صغيرة متناحرة.

النتائج:
ـ اختفاء الدولة السودانية الموحدة.
ـ ظهور دويلات هشة تُدار من قِبل وكلاء أجانب.
ـ نهاية مفهوم "السودان الوطن الجامع".

3. السيناريو الوظيفي: السودان كمنطقة نفوذ دولية
ـ في حال عجز السودانيون عن إعادة بناء دولتهم، قد يتحول السودان إلى "منطقة نفوذ مفتوحة"، تُدار عبر قوى إقليمية ودولية، ويتم التحكم بها اقتصاديًا وأمنيًا دون سيادة وطنية حقيقية.

النتائج:
ـ تحوّل السودان إلى مجرد ممر أو ساحة صراع للقوى العظمى.
ـ تآكل السيادة، وضياع القرار الوطني.
ـ انعدام الأمل في نهضة حقيقية.

4. السيناريو المنقذ (وهو الأضعف حاليًا)
ـ يتمثل في استيقاظ الوعي الجمعي للسودانيين بمختلف مكوناتهم، ورفض الانجرار لخطابات الكراهية، والتوافق على مشروع وطني جامع قائم على العدالة والمواطنة.

النتائج إن تحققت:
ـ إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة.
ـ إجهاض المشاريع التآمرية.
ـ استعادة السيادة الوطنية والكرامة الجماعية.

لقد أثبت التاريخ أن خطاب الكراهية لا يربح، بل يدمر. وكلما تأخرنا في مقاومته، كانت الخسارة أكبر. السودان لا يزال يملك نافذة ضوء، لكنها تضيق. والقرار الآن في يد النخب والشارع: إما أن نرتقي فوق الجراح، أو نسقط في الهاوية.
كما يجب إطلاق مشروع وطني كبير، يُعيد صياغة العلاقة بين مكونات السودان المختلفة، ويضع حدًا لحرب الهويات التي تُهدد بحرق الجميع.

معرض الصور