تم التحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٥ 21:19:01

سلامٌ يُزرع في الأرض قبل أن يُكتب على الورق
يوسف عبد الله
في زمنٍ صار فيه صوت الرصاص أعلى من صوت المؤذن، ودموع الأمهات أسرع من جريان النيل، يطل علينا نداء سلام السودان كنسمة في عز الهجير. ليست مبادرة من تلك التي تُولد في قاعات الفنادق الباردة، ولا من البيانات التي تُكتب على عجل ثم تُنسى في أدراج المكاتب، بل هي من لحم ودم، من تراب القرى، ومن صدور الناس الذين ذاقوا مرارة الحرب وشاهدوا الموت يمر أمام بيوتهم كل صباح.
وراء هذا النداء يقف رجل يعرف تمامًا كيف يكون الوطن ساحة حرب وساحة أمل في نفس اللحظة. فرانسيس دينق، سليل سلاطين أبيي، الذي ورث من آبائه حكمة السمر الليلي حول النار، ومن أرقى جامعات العالم انضباط الفكر ورحابة الرؤية. لم يقرأ السلام في الكتب فقط، بل حمله في قلبه وسعى به بين المنابر الدولية وأزقة القرى المدمرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن المنفى إلى العودة.
منذ أطلق نداؤه في يونيو 2025، تفتحت حوله دوائر من أبناء السودان من كل الخلفيات، فتشكلت المبادرة المجتمعية للسلام، لا كمشروع نخبة تبحث عن مقعد على طاولة المساومات، بل كحراك يبدأ من القاعدة، من أفواه الذين فقدوا بيوتهم وأراضيهم وأحبّتهم، ويعرفون أن السلام ليس رفاهية، بل هو شرط الحياة نفسها.
هذه المبادرة لا تدور حول الخطابات المنمقة، بل حول بناء سردية وطنية تردم الخنادق بين القبائل والجهات، وتطفئ نار الكراهية التي أشعلها تجار الدين وتجار الحرب، خاصة أولئك من عناصر النظام السابق الذين أعادوا إشعال الفتن لإطالة أمد الحرب واستعادة سلطتهم المفقودة. وهي لا تكتفي بالحديث عن السلام كمفهوم رومانسي، بل تمضي إلى المشاورة الحقيقية مع الناس، في الأسواق والحقول، وفي المعسكرات وعلى شاشات الهواتف، بحيث يكون لكل سوداني صوت في رسم مستقبل بلده.
السلام الذي تدعو إليه لا يكتفي بمسح العَرَض وترك المرض، بل ينزل إلى الجذور العميقة للصراع: التهميش المزمن، اختلال السلطة، نهب الثروة، وغياب العدالة في توزيع التنمية. وهي تدرك أن السلام لا يُصنع بإقصاء أحد، فتفتح أبواب الحوار حتى لمن حمل السلاح أو حُرم من الكلام، لأن البلاد التي تخرج من الحرب لا تبنيها المبايعات الشكلية، بل اعتراف كل طرف بوجود الآخر.
وفي قلب هذا المشروع يقف مبدأ الملكية الوطنية الكاملة، فالقرار للسودانيين وحدهم، والدور الخارجي إن حضر فهو مسهِّل لا موجّه، مساعد لا مقرّر، بلا ارتهان ولا أجندات تحت الطاولة. إنه سلام يريد أن يخرج من يد الشعب وإرادته، لا من جيوب الوسطاء.
في النهاية، ليست هذه المبادرة نصًا يُقرأ ثم يُطوى، بل طريقًا يُمشى. إن سلكه السودانيون بجدية، يمكن أن يتحول من حلم يتيم إلى بيت يأوي الجميع. فالسلام، كما يعرفه فرانسيس دينق، لا يُوقَّع في قاعة مغلقة، بل يُزرع في الحقول، ويُبنى في الأسواق، ويُحرس في وجدان الناس.

