تم التحديث: ١٢ أغسطس ٢٠٢٥ 18:42:59

الصورة: facebook
الخرطوم تحت رحمة السلاح
يوسف عبدالله
في شوارع الخرطوم، يتجول الخوف علنًا كما لو كان أحد سكانها الدائمين. قرار إخلاء العاصمة من التشكيلات العسكرية حمل وعودًا براقة، لكنه ارتطم بجدار واقعٍ أمني منفلت لا يعرف سوى منطق القوة. منذ أن أعلن مجلس السيادة الشهر الماضي خطته لإخراج القوات والجماعات المسلحة، ترقب الناس تغيرًا ملموسًا، لكن ما وصلهم حتى الآن مجرد بيانات تُتلى في القاعات المغلقة، فيما المدينة تواصل حياتها تحت ظل البنادق.
الحكومة تبدو وكأنها تمسك خيوط اللعبة بيد مرتجفة. صحيح أن البيانات الرسمية تتحدث عن التزام الجيش وتحديد جداول زمنية، إلا أن المشهد على الأرض يشي بعجز واضح عن فرض السيطرة. القدرة على ضبط العاصمة ليست مسألة إعلان نوايا، بل امتحان لقدرة الدولة على إدارة أجهزتها، ومساءلة من يتجاوز القانون حتى لو كان يرتدي زيًا رسميًا. ما يثير القلق أن الدولة، حتى الآن، لم تُظهر استعدادًا حقيقيًا لمواجهة هذا التحدي.
استعادة الخرطوم من قوات الدعم السريع لم تنه المأساة، بل كشفت مرحلة جديدة من الانفلات. تقارير حقوقية وصحفية وثّقت مراكز احتجاز سرية وممارسات تعذيب في مناطق يُفترض أنها تحت سيطرة الجيش. في الصالحة، وقعت مجزرة على مقربة من وحدات عسكرية أُبلغت بالخطر مسبقًا، لكنها لم تتحرك. وفي شرق النيل وأمدرمان، تتسلل مجموعات مسلحة بزي مختلط إلى البيوت، تسرق الذهب والأثاث، وتدّعي أنها “تنفذ إجراءات روتينية”. هذه الوقائع ليست حوادث فردية، بل أعراض لفشل أمني ممنهج.
حتى الأسواق، التي تمثل شريان الحياة الاقتصادية، صارت مسرحًا لابتزاز مسلح. في سوق ليبيا، يفرض مسلحون على دراجات وركشات ما يسمونه “مساهمات للدولة” تحت تهديد السلاح. بالنسبة للمواطن، لم يعد هناك فرق بين عصابة منظمة ولجنة أحياء، فكلاهما يفرض الإتاوات ويملأ فراغ الدولة بالقوة.
الشرطة، التي أعادت فتح عشرات المراكز في أبريل الماضي، تكتفي غالبًا بتسجيل البلاغات، بينما الجرائم تجري على مرأى ومسمع. الأسوأ أن الخطاب الرسمي يركز على اتهام قوات الدعم السريع، متجاهلًا أن معظم عمليات النهب تقع في مناطق لم تشهد وجود تلك القوات أصلًا. هذا الإصرار على تعليق الفشل على طرف واحد يعكس ضعف الإرادة السياسية في مواجهة المشكلة من جذورها.
اليوم، الخرطوم تعيش على خط التماس بين وعود الدولة وهيبة القانون من جهة، وواقع يومي ينهش ثقة الناس من جهة أخرى. الحكومة أمام اختبار حاسم: إما أن تتحول قواتها النظامية إلى أداة حماية حقيقية، وتخضع جميع عناصرها للمساءلة، أو أن تترك العاصمة رهينة لفوضى مستمرة.
وإذا استمر هذا الانفلات الأمني، فإن الخرطوم أمام ثلاثة سيناريوهات قاتمة: الأول، أن تترسخ سلطة المليشيات كقوة موازية، فتتحول الدولة إلى واجهة بلا مضمون. الثاني، أن يتآكل النسيج الاجتماعي لصالح الولاءات القبلية والمناطقية، ما يفتح الباب لصراعات أهلية أوسع. أما الثالث، وهو الأخطر، فيتمثل في انزلاق العاصمة إلى نموذج “المدن الميتة”، حيث تتوقف الحياة الاقتصادية، وتغيب الخدمات، ويصبح الاستقرار حلمًا بعيد المنال.
تفادي هذه النهايات المظلمة لن يتحقق إلا إذا انتقلت الحكومة من مرحلة التصريحات إلى مرحلة الأفعال: إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، تطهيرها من المتورطين في الانتهاكات، وبسط سيادة القانون على الجميع بلا استثناء. دون ذلك، لن تخسر الخرطوم أمنها فقط، بل ستفقد دورها كقلب السودان، لتتحول إلى مرآة تعكس فشل الداخل قبل أي خطر يأتي من الخارج.

