آراء

تم النشر بتاريخ: ٤ أغسطس ٢٠٢٥ 15:04:31
تم التحديث: ٠ ديسمبر ٠٠٠٠ 00:00:00

حرب أبريل: ``متحف رقمي`` للانتهاكات

<p>خالد ماسا</p>

خالد ماسا

وتختار حرب السودان أن تكون جيناتها مختلفة عن الحروب المشتعلة في كل أطراف العالم، وأن يكون لها ما يميزها عن غيرها في الانتهاكات واستعراض الجرائم الملازمة للحرب في "متحف رقمي" يوثق كيف أننا كسودانيين في حربنا لسنا في حاجة لعين ثالثة تضبط جرائم الحرب وتوثقها كبينات إلى حين مثول مرتكبي الجرائم يوماً ما أمام العدالة الدولية لمحاسبتهم، وليكونوا عظة وعبرة لكل من تسوّل له نفسه الانتهاك.

صالة العرض

سجال الحرب المستمر منذ منتصف أبريل من العام ٢٠٢٣م وحتى الآن ظللنا نشهد فيه عقب كل كرّ أو فرّ في أي موقع من مواقع الحرب عرضاً للجانب الأكثر رُعباً فيها، إذ وبتطاول أمد الحرب وتكرار مشاهدها، لم يعد مشهد جثث الموتى وأشلاء الضحايا مفزعاً، بل بالعكس، صارت هذه المشاهد هي مدعاة لحصد المشاهدات والإعجاب، وربما تحقيق المكاسب المادية من التفاعلات مع الصفحات والحسابات التي تعلن حصرياً عن حفلات الشواء البشري، كُلٌّ يغيظ الآخر بما هو موجود في موائده.

انتشرت نار المقاطع المصورة في هشيم Time Line الناشطين السودانيين بعد المعارك التي دارت رحاها في أم سيالة وأم صميمة، وهي تظهر مقاطع تعامل مقاتلين من الدعم السريع مع الأسرى بعد تجريدهم من السلاح، وبعد أن تم تحييدهم كعناصر قتالية ودخلوا في تصنيف أسرى الحرب، والذين حفظت لهم الأديان والتعهدات والمواثيق الدولية جملة من الحقوق، أصلها يقوم على عدم امتهان كرامتهم أو إذلالهم، على النحو الذي رأيناه في المقاطع التي يتداولها داعمو هذا النوع من السلوك، وهم يتلمظون، وبنوع من الشهوانية، لممارسات تُعرضنا أمام العالم مجرّدين من الأخلاق، وخارقين للشرعة الدولية، بل ومخالفين للفطرة السليمة.

خطورة التصالح مع هذا النوع من الممارسات هو أنه ينقل عدوى الانتهاكات، ويصيب الجهاز المناعي لقيم الإنسانية التي تعمل المجتمعات المتمدّنة على نشرها، وحضّ عليها الدين في تعاليمه، ويجعل من الحرب التي عجزنا عن منعها أو إيقافها، حرباً بلا الحد الأدنى من الأخلاق، وكأننا في سباق ضد كل ما دعت له البشرية من قيم يجب أن يتحلى بها المحاربون.

قد يعتقد ناشرو مقاطع "الفيديو" أو المحتفلون بتداولها، التي تظهر تنفيذ العقاب الميداني على الأسرى، بأنها تصلح لأن تكون أحد أسلحة الحرب المستخدمة لضرب الخصم في قلب معنوياته وبثّ الرعب في أوصال جنوده، إلا أنها تُزكّي نار الحرب وتُوغِر الصدور، وتجعل الثأر، بذات الطريقة والأدوات، هو الهدف.

وكلما ازدادت هذه الانتهاكات واستمر الترويج لها بواسطة حمّالي الحطب، كلما كان ذلك أدعى لخلق أسباب لاستمرار هذه الحرب وامتداد حريقها، وغلق الأبواب أمام أي سبيل يجعل "التسامح" ممكناً، أو التفاوض في لحظة ما تحتاج فيها أطراف الحرب إلى "العفو"، لأن ما تم عرضه للأسرى ومعاملتهم يظل عالقاً في الذهن، ولا يسهل نسيانه عند الرجوع للحلول السياسية.

وما لم تستطع أن تُقنع به الأخلاق السودانية والفراسة والدين، لن تجعل منه نصوص العهد الدولي لحقوق الإنسان ضرورياً، والذي كان من الواجب أن يكون جزءاً من تحضيرات المقاتل وهو يستعد للذهاب لميدان القتال، ولكننا نجد بأن "نافخي الكير" ومروّجي بضاعة السوء في هذه الحرب يعتبرون بأن بثّ مقاطع التلذذ بانتهاك حقوق الأسرى هو جزء من "حافِز" المحارب ليقاتل بروح كتيبة، وأن الزاد المعنوي للمحارب هو من نوع مقولات "كتال بلا غُبينة ولا حُلو"، والتشفي هو أركان حربه في الميدان.

خطاب التضليل
وهو الخطاب القائم على ادعاءات الفعل وردة الفعل لتبرير ظهور مثل هذه المشاهد في حرب السودانيين، والقول بأن ما تمت مشاهدته في مقاطع معركة أم سيالة وأم صميمة هو انعكاس لما حدث في كنابي الجزيرة وجنوب الحزام، وهو منهج تضليلي غايته التبرير للانتهاكات المُدانة أياً كان مكانها وأيّاً كان مرتكبها في هذه الحرب.

مسؤولية الاصطفاف المدني في هذا الظرف الدقيق الذي يمرّ على السودان هو الوقوف في وجه هذه الانتهاكات، والتصدي وتجريم الترويج لها، وإيصال صوت الإدانة لأي انتهاكات تنتجها الحرب، وتذكير الكل بأن احترام حقوق الأسرى ليس فقط مسؤولية المتحاربين، بل تقع المسؤولية على الفصيل المدني لبثّ الوعي بخطورة التصالح مع هذا النوع من الانتهاكات.

لا تكفي التبريرات والادعاء بالمسؤولية الفردية في هذه الممارسات والانتهاكات، لأن مرتكبيها أمِنوا العقاب، واعتبر من في الميدان بأن ما يحدث هو جزء من تكتيكات الحرب المعنوية الفعّالة، ولابد من أن يُظهر المتحاربون إجراءات عقابية رادعة لأي انتهاك، وأن يذهب كل ما تم توثيقه من انتهاكات بحق الأسرى ليُعرض أمام مؤسسات العدالة الدولية.

وليست هنالك جدوى من الانصراف لمغالطات من الذي ارتكب الانتهاكات أولاً، ومن الذي فاق الآخر في انتهاك الحقوق، ووفقاً للمعيار الإنساني تصبح كلها انتهاكات لا يجوز السكوت عنها، ولا عن الترويج لها بالنحو الذي نراه الآن، وكأن حرب السودان هي عرض أول لفيلم رعب على شاشات "كلوزيوم".

معرض الصور