تم التحديث: ٠ ديسمبر ٠٠٠٠ 00:00:00

سلام السودان: من يضع المتاريس؟
ومنذ الشهقة الأولى لحرب السودان في منتصف أبريل من العام ٢٠٢٣م وحتى كتابة هذه السطور في النصف الثاني من العام ٢٠٢٥م نعتقد بأنه زمن كافٍ لتفكيرٍ مستقرٍّ حول صناعة جسور تعبر بالسودان من نكبة الحرب إلى فضاءات السلام، وأن ما حدث من أهوال في هذه الحرب وعاشها الشعب السوداني كافٍ تمامًا لإقناعه بأي مبادرة سلام تُزيح عن كتفيه هذا العبء الثقيل.
تتعدد الأسباب، تتعدد الأسباب وموت مبادرات السلام المطروحة لحقن الدم السوداني واحد؛ فبمثلما عُرف عنا عدم قدرتنا على تسويق تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا خارج حدودنا المرسومة جغرافيًّا، يبدو عجزنا واضحًا في عرض كارثة الحرب التي حلّت بالشعب السوداني أمام نظر العالم ليستشعر معنا أن استمرار الحرب في السودان تقابله خسائر إنسانية فادحة.
نحن لم نستطع أن نحجز مكانًا للغناء والموسيقى السودانية وسُلّمها الخماسي في النوتة الموسيقية التي يسمع منها العالم، ما عدا اجتهادات قليلة، وكذلك لم نجتهد ليسمع العالم صوت الرصاص بلسان مأساتنا وليس بأُذن مصالحه، ولذلك ظل صخب رصاص الحرب يغطي على صوت مزامير السلام.
من يضع المتاريس؟
والإشارة هنا لمتهمٍ واحدٍ عند الشروع في الإجابة على هذا السؤال تعني الانضمام تلقائيًّا لبازار "المتاريس" الموجودة أصلًا أمام أي تفكير لفتح طريق واحد يفضي للوصول إلى نهاياتٍ مرغوبٍ فيها لهذه الحرب. هنالك جملة متهمين لا يجوز التستُّر عليهم متى ما كانت الرغبة جادة في الخروج من هذا الاحتباس الحربي إلى رحابة طُرُق السلام، وهنالك شواهد وبيِّنات كافية جدًا لإثبات أن البصمات المرفوعة من على مسرح جريمة تتريس مسار مبادرات سلام السودان - على تعددها - تشير إلى عمل "عُصابي" اجتمع على المصلحة في استمرار الحرب وتعطيل أي اجتهاد لإيقافها، بغض النظر عن أي تكاليف إنسانية.
"نرفضها ولو جاءت مبرأة من كل عيب" ليست مجرد عبارة يتم تداولها أثناء نقاشٍ حادٍّ في النادي السياسي السوداني، وإنما صارت هي الماركة السودانية المسجّلة في نادي القضايا العامة في السودان، وليست تعبيرًا عن مزاج سياسي "راديكالي" يرفض الحلول المطروحة، بل هي مدرسة ومنهج معتمد يقوم على الرفض ابتداءً، ثم يبحث من بعد ذلك عمّا يجعل هذا الرفض مستساغًا من حيث الطعم واللون والرائحة.
لا يوجد حتى الآن حديث مُتفق عليه في روايات الأزمة السودانية، على الرغم من تكاثر دعوات الحل "السوداني سوداني" من قبل أئمة الحديث السياسي ودعاويهم ببطلان روايات مبادرات الحل الإقليمي والدولي؛ فالسودانيون لم يستطيعوا أن يُخفوا اختلافهم على الاستقلال من المستعمر، فكيف هو الحال في مواقفهم من إيقاف جملة الحروب التي أشعلوها؟
طريقة الأطراف السودانية في الاختلاف، وتحديدًا في القضايا السياسية، هي محدد مهم في التعامل مع ما ينشأ بينها من خلاف، إذ يصبح الخلاف خلاف وجود، ينتهي بالدعوة لإلغاء الآخر ورفض كل ما يخرج منه ولو جاء مبرأً من كل عيب، تيمُّنًا بالعبارة الأيقونية في العام السوداني.
من أعظم المتاريس التي تجعل الأمر صعبًا في حرب السودان هو أن صوت الرصاص صار أعلى من صوت العقل، وما من أحدٍ لديه إيمان بإمكانية التفاوض على منتج سلمي سوداني على طاولة نقاش سودانية، الوسيط فيها هو المصير والدم المشترك، وآليات التنفيذ فيها الالتزام والإجماع الوطني.
العبور الوطني العظيم الذي أحدثه الاصطفاف المدني في ثورة ديسمبر، من ظلمات القهر والاستبداد إلى ضوء الانتقال الديمقراطي، كان "البصيص" من الأمل في قدرة السودانيين على الاتفاق على شرٍّ يُهددهم أو خيرٍ ينتشلهم مما هم فيه، لولا أن جاءت لحظة الحقيقة فتفرّقوا أيدي سبأ، حتى في الموقف من الحرب.
حالة عُقم عامة
عمليًّا، لا يمكننا القول بأن القوى المدنية قد تنازلت عن مسؤوليتها في تقديم الحلول لأزمة الحرب في السودان، ولها من الاجتهادات المنظورة الكثير، ولأن المصائب يجمعن المصابين، فإن الأضرار طالت أول ما طالت الفضاء المدني، وهذا كان أدعى للاتفاق على تخطّي متاريس الحرب، ولكن تمت محاكمة كل مبادرات الحل الوطنية لحرب السودان بسوء الظن السياسي والخطاب الماضوي، بل وجعلوا منها السبب لتصفية الحساب السياسي.
صار البحث عن مشتركات في النادي السياسي السوداني أصعب من البحث عن إبرة في كومة قش مشتعلة ولم تنجح مبادرات الحل الوطني لأن الحرب بين المكونات المدنية يُستخدم فيها "الكيمياوي" السياسي، والذي كان يستلزم فرق تفتيش وطنية واتفاق تجريم سوداني لاستخدامه في وجه كل من يضع المتاريس أمام الحل الوطني، لولا حالة الانقسام السودانية المبنية على اللاشيء سوى الرغبة في "فش الغبينة" السياسية، والتي خرّبت "الدولة" ولم تقف في حدود مدينة واحدة.
وتأسيس الموقف هنا عند الغالبية قائم على قياس عرض الحل السياسي المقدم على طول البندقية التي تُقاتل، وبالتالي لا مجال لبراءة أي مبادرة وطنية من عيب التزام جانب بندقية ما تقاتل في الحرب السودانية، والكل يحاول أن يتطهر من خطيئة الطلقة الأولى ومن ما حاق بالشعب السوداني.. سُد الباب الوطني للمبادرات بمتاريس العمالة والارتزاق ومطامع السلطة وتجييش المشاعر واستقطاب أدوات الموت، ولم تُنجب حواء أزمة الحرب حلًّا يُنجيها وينجي شعب السودان، وما أن يداهمها طلق هنا أو هناك بنداء وطني يُنبّهها للأوضاع الإنسانية للنازحين واللاجئين والمخفيين قسرًا، سارعت متاريس الحل لإجهاض أجنّة لم تتخلّق بعد في رحمٍ صار عقيمًا.
خُرافات سياسية
وعلى الرغم من أن النادي السياسي يُفترض فيه الاحتشاد بالمثقفين والطبقة الواعية في المجتمع، إلا أن الغايات التي تُبرر الوسائل جعلت "التمائم" و"التعاويذ" المستخدمة فيه لشيطنة الحلول الإقليمية والدولية عمومًا ذات تأثير كبير، ولعبت دور المتاريس لتعطيل الحلول السلمية لحرب السودان، وصار "التدخل الأجنبي" شيطانًا في الظاهر عند طرح المبادرات والحلول، و"ملاكًا" في الباطن يقدم المال والسلاح والمعلومات، وصارت قوافل الدعم الإنساني غطاءً لعمل عسكري، والحديث عن آثار الحرب الظاهرة للعيان، كالمجاعة وانهيار النظام الصحي وانتهاك حقوق المدنيين، مدعاة للتنمّر السياسي.
أي حديث عن عزلة دولة كالسودان، بوزنها السياسي وتاريخها وموقعها المطل على جغرافيا مهمة والمؤثر على خطط واستراتيجيات أمن تخص الإقليم والعالم، هو نوع من "الشعوذة" والدجل السياسي غير المستوعب لديناميكيات السياسة الدولية؛ فبمثلما أن ذلك قد يستدعي المطامع في خيرات البلد، فإنه قد يستدعي المصالح المشتركة، فقط إن حضر الشرط الوطني والإرادة لتحقيق ذلك.
استدعاء عبارة "نرفضها ولو جاءت مبرأة من كل عيب" بطريقة صمدية من مخزن العقل السياسي السوداني، متى ما كانت هنالك مبادرة إقليمية أو دولية للحل، لن يكفّ مطامع المجتمع الدولي في السودان، وليس من المنطقي أن نصنع شروط الأزمة محليًّا ونرفض حلولها المستوردة إجمالًا في عالم يعرض حاليًّا على شاشاته أكثر من بلدٍ اكتمل فيه بناء مؤسسات الدولة، ونضجت فيه مؤسسات المجتمع المدني، وارتفع فيه وعي المجتمع، ويملك اقتصاده حصانة كافية، قامت فيه الحروب، وهو ينتظر الآن الحلول من المبادرات الإقليمية والدولية دون أدنى حرج وطني من تسميات الاستعمار الجديد.
لن تكون "الرباعية" هي آخر الفرص أمام السودانيين لإسكات صوت الحرب، ولكن كلما امتد عمر الحرب، كلما استعصى على المبادرات حلها، وما من وطني عاقل يدعو لقبولها بعيوبها الناتجة إما عن مطامع أو عدم المعرفة بالمشكل السياسي السوداني، ولكن العقل أيضًا يستنكر رفضها ابتداءً، على الرغم من الحال الوطني غير المبشّر بالالتئام قريبًا.
الأمن والسلام الدوليان هما شرطان جعلا من أي حرب نشبت في مياهٍ ويابسةٍ أمرًا عامًا يستدعي التداعي للتعامل معها، إما بمبادرات الحل أو الدعم لأحد الأطراف، ومن يشيطن كل الحلول تقع عليه مسؤولية استدعاء بدائلها، بدلًا عن المهمة السهلة بتجريمها بعيوب مُتخيلة.


