تم التحديث: ١٤ أغسطس ٢٠٢٥ 17:23:49

النقابات السودانية.. حين تأتي السياسة من الباب الإداري
يوسف عبد الله
منذ أواخر مايو 2025، دخلت الحركة النقابية السودانية طورًا جديدًا من الإرباك، ليس بفعل خلافات داخلية بين أعضائها أو صراع طبيعي حول برامجها، بل بقرار إداري مركزي جاء كمن يطفئ المصابيح في منتصف النهار. ففي التاسع والعشرين من الشهر، أصدر مسجل تنظيمات العمل قراره رقم (9)، واضعًا نقطة نهاية لدورة جميع المكاتب التنفيذية للنقابات، ثم عيّن لجان تسيير مكانها، بعضها مُعاد إنتاجه من أعضاء انتهت ولايتهم قبل أن يعودوا عبر بوابة السلطة، لا عبر صندوق الاقتراع.
القرار لا يمكن أن يُقرأ كتعديل روتيني أو تصحيح مسار؛ إنه إعادة صياغة لجوهر العمل النقابي، بل وارتداد عن أبسط شروط الديمقراطية التي ناضل من أجلها العمال عقودًا طويلة. لم يكن ثمة تفويض من الجمعيات العمومية، ولا مشاورة للقاعدة النقابية، ولا حتى تبرير قانوني محدد. كان أشبه بجرس إنذار يذكّر بتاريخ طويل من التحكم الإداري في النقابات، حين كانت تدار من أعلى لا من القاعدة، وتُستعمل كأداة ضبط لا كمنصة دفاع.
من الناحية القانونية، تجاهل القرار بوضوح النصوص الجوهرية في قانون النقابات لسنة 2010، خاصة المواد التي تحدد مدة الدورة النقابية وآليات تجديدها أو تمديدها بالتشاور، لا بفرض الحل الشامل. بل إنه مرّ مرورًا على المبادئ الأساسية للقانون نفسه، تلك التي تعتبر النقابات منظمات ديمقراطية يختار أعضاؤها ممثليهم بحرية، ولم يترك أثرًا لهذه الحرية في قراره.
أما من الناحية الدولية، فقد بدا القرار كأنه لا يرى وجود اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (87) التي صادق عليها السودان، والتي تحظر صراحة حل النقابات أو تعليق نشاطها بقرار إداري. هنا، تلاشى مبدأ الاستقلال النقابي كما يذوب الملح في الماء، وعادت الصورة القديمة: الدولة تضع يدها على الهيئات التي يفترض أن تراقبها وتنتقدها.
لكن الأخطر من النصوص هو الأثر العملي. فقد فرّغ القرار النقابات من دورها الطبيعي كصوت العمال في مواجهة الانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية، وجعل لجان التسيير المعيّنة أقرب إلى الإدارات المؤقتة منها إلى الهيئات الممثلة. ومع تقلص المصداقية، تضيق مساحة التفاوض الجماعي، وتتآكل ثقة العمال، ويزداد حضور ثقافة التبعية على حساب ثقافة المطالبة بالحقوق.
هذه ليست معركة مكاتب تنفيذية ضد لجان تسيير، ولا صراعًا على مقاعد الشرف النقابي؛ إنها معركة على هوية الحركة النقابية نفسها: هل ستظل منظمات حرة تنبض بإرادة أعضائها، أم ستعود إلى دور التابع الإداري الذي يسير وفق الإشارة؟
لقد أثبت القرار أن التهديد للحريات لا يأتي دائمًا من فوهات البنادق، بل قد يطل من مكتب مسجل يحمل أوراقًا مختومة. وأن استعادة حرية النقابات اليوم ليست رفاهية، بل هي شرط لسلامة الحياة الديمقراطية في السودان، وامتحان حقيقي لمدى جدية الالتزام بالمعايير الدولية التي طالما أُعلنت، ونادرًا ما طُبقت.

