06/08/2024

من أين جاء الجيش؟

أمير بابكر عبد الله
نشرت هذا المقال قبل إندلاع الحرب، وتحديداً في مطلع مارس 2023، في اليومين الماضيين شاهدت فيديو لجماعة من الملتحين يخاطبون جمعاً من القوات المسلحة. وفيما يبدو أنه نوع من الدعم للجيش لكنه احتوى على مغالطات يحلولون صبغها بالدين لتبدو أكثر قدسيو وقطعية. وعلى رأسها أن الدولة الأموية والعباسية دول عسكرية متجاهلين حقائق في السيرة النبوية وهي أن الدولة قامت على الدعوة وأن السياسة مقدمة على العسكرية وليس لنقص في الأخيرة ولكنها طبيعة الأشياء.

إلى المقال
هو ليس بتساؤل استنكاري مثل مقولة أديبنا الراحل الطيب صالح في حق الإسلاميين “من أين أتى هؤلاء؟”، ولكنه استفهام ربما تقود محاولة استجلاءه إلى إزالة تلك العصبية التي يحاول بعض من العسكريين ومن شايعهم تأطيره داخلها بحيث يظل منعزلاً عن محيطه ومنبتاً عن جذوره. وكذلك حتى لا يتحول الجيش إلى الوحش الذي صنعه فرانكشتاين فانقلب عليه أو كما جاء في رواية الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي عندما قال الوحش إلى فيكتور فرانكنشتاين “كنت يجب أن أكون آدم الخاص بك، لكني بدلًا من ذلك كنت الملاك السيئ”.

يجيء السؤال في ظل التطورات السياسية الراهنة التي أفرزتها تداعيات أكثر من ستة عقود من العلاقات المشوهة، ولنضع خطين مبدئيا تحت التطورات السياسية، وكذلك يجيء وسط الأصوات التي تتعالى بعدم أهلية السياسيين، تقرأ المدنيين، في مسألة إصلاح المنظومة الأمنية، وحصر مسألة الإصلاح في زاوية القضايا الفنية.

هذا يقودنا إلي السؤال العنوان أعلاه، وقبله المرور على عدة أسئلة سريعة، هل تنشأ الجيوش أو نشأت هكذا خبط عشواء؟ وهل قرار دولة أو مجتمع أو جماعة ما بتكوين جيش هو قرار سياسي أم عسكري فني؟

بطبيعة الحال، ولا يحتاج الأمر التعمق كثيراً في سيرة التاريخ البشري، قرار إنشاء قوة عسكرية مسلحة أو جيش، هو قرار اقتضته ضرورات سياسية متعلقة بحماية الدولة والحكم وكذلك بالتطلع إلى التوسع وغزو الآخرين، وبلغة العصر الاستعمار. بمعنى أكثر دقة فإن قرار إنشاء جيش مسلح هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، وتطور مع التطور السياسي البشري ليصبح محكوماً بنصوص الدساتير التي تحكم البلدان والتي تفصِّل مهامه حسب مقتضيات الحال.

يتحكم في تكوين الجيوش وتفصيل مهامها دستورياً النظام الاجتماعي السائد في دولة ما وطبيعة النظام السياسي الذي يديرها، فجيوش الأنظمة الشمولية الأحادية غير جيوش الأنظمة الديمقراطية. وهنا لابد من التأكيد، من وجهة نظري بالطبع، بأن ليس هناك ما يسمى بالحكم العسكري، فالضابط الذي ينفذ انقلابا ضد الحكم، ايا كانت طبيعة الحكم، يكون قد اتخذ قرارا سياسيا وليس عسكريا، وإذا نجح في انقلابه وجلس على كرسي السلطة يصبح بطبيعة الحال سياسيا لأنه لن ينفذ خطة عسكرية ميدانية وإنما سيطرح برنامجا سياسيا، بغض النظر عن طبيعته، ليحكم البلاد. أما أن يستخدم مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية لترسيخ أركان حكمه واستمراره فهذا شأن الأنظمة الشمولية على غرار الدكتاتوريات وأنظمة الحزب الواحد وأنظمة الممالك والأسر. وكلها أنظمة مدنية ذات طبيعة أحادية. أما الأنظمة ذات الطبيعة الدستورية الديمقراطية والتعددية فمعروف كيف تدار فيها مؤسسات الدولة ومن ضمنها الجيش كمؤسسة.

بالعودة إلى سؤالنا الرئيسي، من أين جاء الجيش؟ من المهم الإشارة إلى ربط الاحتفال بعيد القوات المسلحة السودانية بتولي أول سوداني لقيادة الجيش في العام 1954، قبل عام من جلاء آخر وحدة عسكرية بريطانية من الأراضي السودانية ونيل البلاد استقلالها بعد بضعة أشهر بعد ذلك. وحتى ذلك الوقت كان يطلق عليها قوة دفاع السودان، وكما هو معلوم إن قرار إنشاء قوة دفاع السودان هو قرار الحكومة البريطانية في العام 1925 التي كانت تستعمر البلاد. وأيضاً جاء قرار إنشاء تلك القوة سياسياً لخدمة الأهداف الاستعمارية وقائدها العام هو الحاكم العام في الخرطوم.

بعد سيادة الحكم الوطني على البلاد تغير الإسم إلى القوات المسلحة السودانية التي مثلت أحد أركان مؤسسات الدولة في ظل حكم مدني ديمقراطي مضطرب أدى إلى تشوه الحياة المدنية في جانبيها السياسي والعسكري وأفرز مع تطور العملية السياسية في السودان هذا الوضع الأزمة الذي نعيش تداعياته المعقدة الآن.

رغم كل الغبار الذي يغطي على المشهد الآن، لكن ما يحكم إنشاء الجيوش هو القرار السياسي كما أوضحت في موقع سابق، وهذا القرار السياسي يأتي مدعوم بعدة شواهد أخرى تجعل من مشاركة ومساهمة المدنيين في أي عملية لإصلاح الجيش هو أمر أصيل وحيوي ومهم وليس دخيل. فعملية الإصلاح لا بد أن تتم وفقاً لإطار نظري كامل يمثل رؤية الدولة بمختلف مؤسساتها قبل أن نصل إلى مرحلة الإصلاح الفني الذي يتولاه المختصون في الجانب العسكري. وعلى هذا الإطار ان يتضمن رؤيتنا لما نريده من الجيش كمؤسسة، وما يجب أن نوفره له لأداء مهامه الموكلة إليه سوى على المستوى التشريعي أو اللوجيستي.

بكل تأكيد لن يفهم المدنيون، أو هو ليس من شأنهم، أن يحددوا كيف تتحرك الجيوش ولا سيقفون على تربيزة الرمل ليحددوا مسار انطلاق الجيوش هجوماً أو انسحاباً، ولن يحددوا الاحتياجات الفنية والعسكرية للجيش ولا كيفية هيكلته ليقوم بأداء مهامه، فتلك شؤون فنية.

من البديهي إن مؤسسة الجيش ليست هي من تحدد إذا ما كان الجيش سيؤسس على أساس الدفاع عن البلاد فقط أم سيكون جيشاً هجومياً يخدم أهدافاً توسعية، وليس مؤسسة الجيش هي من يحدد أن ترسل قوات للقتال في قناة السويس في حرب أكتوبر أو القتال ضمن الحلف السعودي الإماراتي في اليمن، فهذا قرار سياسي وإن كان من اتخذه رأس دولة خريج المدرسة العسكرية. ولعل قصة الرئيس نميري مع اللواء محمد عبد القادر تقف شاهداً على حدود السياسة والعسكرية حتى وإن جلس على كرسي الرئاسة خريج المدرسة العسكرية وبزيه الرسمي، ففي كتاباتي عن المرتزق رولف شتاينر، كنت قد سردت تلك القصة، وملخصها أن المرحوم اللواء محمد عبد القادر كان قائد القيادة الجنوبية إبان نشاط شتاينر في الجنوب. وكان الجيش قد حاصر الموقع الذي يقيم فيه ويدير فيه عملياته لمساعدة الأنيانيا في ذلك الوقت. وبعد أن أحكمت قوات الجيش الحصار على الموقع، جاءتهم تعليمات من القيادة العامة للجيش ممهورة بتوقيع القائد العام نميري بوقف العمليات، وهو ما مكن شتاينر من الهروب إلى يوغندا. غضب اللواء محمد عبد القادر واستغل أول طائرة إلى الخرطوم من جوبا والتقى بنميري في مكتبه. سأله مباشرة عن سبب الغاء الهجوم على موقع شتاينر وكانوا قاب قوسين أو ادني من القبض عليه، فقال له نميري إن هذه سياسة ولا علاقة للعسكرية بها، فما كان من اللواء إلا أن خلع الكاب وقدم استقالته فوراً إلى نميري.

الشاهد الثاني هو أن اتخاذ قرار الحرب، مثلاً، هو قرار سياسي في المقام الأول يتخذه رأس الدولة ذات الطبيعة المدنية، وبحسب رأيي ليس هناك رأس دولة عسكري، فقرار الحرب لن تتخذه المؤسسة العسكرية بناء على رغبتها. وعندما يتخذ رأس الدولة قرار الحرب فهو لا يتخذه وهو جالس على كرسيه في القصر وإنما بناء على رؤية متكاملة تشارك فيها أطراف عديدة في الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية وهي تمثل العامل الأول في اتخاذ رأس الدولة. فالحرب ليست هي تلك التي تجري في ميادين القتال فقط وإنما أشمل من ذلك بكثير، فهي إلى جانب الاستعداد العسكري لخوضها تحتاج لوزارة مالية قادرة على الإيفاء بمطلوباتها اللوجستية وإلى وزارة خارجية قادرة على التحرك الدبلوماسي في عدة أصعدة وإلى جهاز إعلامي لديه كل الإمكانيات لإدارة معركة إعلامية تساند الجيش وقبل كل ذلك إلى جبهة جماهيرية موحدة تعمل على إسناد القرار وبالتالي مساندة الجيش بكل ما تملك.

شاهد آخر يمثل اعترافاً ساطعاً بأهمية مشاركة السياسيين، المدنيين، في إصلاح مؤسسة الجيش، وهو أن الدستور هو من يحدد مهام وصلاحيات تلك المؤسسة، وحتى في ظل الأنظمة المدنية الشمولية فإن البرلمان الذي يتكون من أعضاء مدنيين هو من يجيز الدستور، هذا إذا لم يجز باستفتاء شعبي عام، والبرلمان هو من يجيز القوانين التي تحكم العمل الداخلي لمؤسسة الجيش أسوة بالمؤسسات الأخرى، كما أن البرلمان هو من يجيز قرار الحرب في الدول المحترمة حتى تتحمل كافة مؤسسات الدولة والسلطات التي تحكمها مسؤولية القرار.

ولكن قبل كل ذلك، أتى الجيش من هذا الشعب، فأفراده ليسو مرتزقة وإنما مواطنون سودانيون اختاروا سلك الجندية وخضعوا لتدريبات تؤهلهم لممارسة وأداء مهامهم في مراكز يمتلكها الشعب، ويصرف عليهم من أموال للشعب، مثلهم في ذلك كالآخرين في مختلف مؤسسات الدولة الخدمية. وهم جزء من كل البيوت السودانية التي خرجت الطبيب والمهندس والعامل والمعلم والأستاذ الجامعي والمزارع والراعي وحتى يخدموا كل هؤلاء في أسمى مهامهم المكلفين بها عليهم أن يسمعوا رأي هؤلاء “الملكية” في إصلاح مؤسستهم.

وعلى منسوبي الجيش أن يدركوا الخديعة الكبرى التي يحاول الانقلابيون دائماً التغطية عليها باسم المؤسسة لاستخدامها في مشروعات سياسية وتجييرها لصالح فئات دون أخرى وليس لصالح الوطن والدولة. وأن المؤسسة العسكرية بطبيعة تكوينها لم تنشأ لتحكم، فذلك مجرد إدعاء يروج له أصحاب الأجندة السياسية داخلها. وكما ذكرت فإن الانقلابي هو سياسي يحمل وجهة نظر سياسية يريد تحقيقها بالتخفي خلف ساتر الجيش، وهذا ما يتنافى مع طبيعة هذه المؤسسة التي لا تقوم إلا على القومية والحياد. عليهم حماية مؤسستهم وعدم السماح بتحويلها إلى وحش فرانكشتاين بالدفاع عن مبدأ الاحتراف والمهنية الذي دائماً ما يقوضه منسوبوها ذوو الانتماءات السياسية، والسيطرة والضبط على مهامها المحددة في الدساتير، والدفاع عن وحماية النظام الديمقراطي حتى يتمكن من إنجاز الدستور الدائم للبلاد، فالسياسيون وأنصارهم في المؤسسة العسكرية يماطلون في انجاز صناعة الدستور الدائم منذ الاستقلال ليسهل استغلال هذه المؤسسة وتسخيرها لخدمة الأنظمة السياسية وليس لخدمة مصالح الدولة العليا.

معرض الصور