نِداء وطَني حول مُفاوضات جِنيف بين الغرَيمين
فتحي الضَّو
في خطوة تمَّ الإعداد لها جيداً فيما يبدو، أعلنت الإدارة الأمريكية قبل نحو أسبوعين تقريباً، عن مفاوضات سوف تجري بين الغريمين أو طرفي النزاع في حرب البلهاء، الجيش وقوات الدعم السريع. وذلك في الرابع عشر من شهر أغسطس الجاري بمدينة جنيف السويسرية. وعلى الرُغم من أن المبادرة كانت متوقعة لدى كثير من المراقبين، إلا أنها لم تكن كذلك في دوائر الغريمين اللذين فوجئا بإعلانها على حين غِرة. وقد استدل المراقبون على ذلك بالارتباك الذي حدث في أروقة الطرفين وتحديداً قيادة الجيش. إذ تباينت ردود فعلها وتراوحت بين الرغبة والتمنع، فلم تكشف عن موافقة رسمية حتى كتابة هذه السطور، في حين لجأت قيادة الدعم السريع إلى الاستجابة الفورية، وأصبح ذلك دأبها في كل مقترح مماثل يدعو للتفاوض، غير عابئة بالانتهاكات المستمرة التي ظلَّت ترتكبها دون وازع أخلاقي، وتتقاطع جذرياً مع ادَّعاء الجنوح للسلم والتفاوض.
بيد أن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في صدارة هذا التحليل هو: ما الذي حدا بالإدارة الأمريكية إلى تقديم هذه الدعوة بعد طول انتظار؟ وما الذي يجعل هذه الجولة مختلفة عن سابقاتها؟ هل هناك جدية أم أن ثمة شيء يبدو وراء الأكمة؟ وما الذي يمكن أن يحدث إن تماطل الطرفان أو أحدهما عن بلوغ الأمل المنشود الذي تنتظره الملايين على أحر من الحرب؟ هل هناك آلية قوية افتقر لها منبر جدة وحان قطافها في الجولة الحالية؟ يمكن القول إن نصف هذه التساؤلات سوف نجد لها الإجابة الوافية بين السطور، في حين أن النصف الآخر سيظل في ثنايا الصدور طبقاً لعبثية الحرب التي تعلمون.
أولاً: على غير المألوف في مثل هذه القضايا، قامت الإدارة الأمريكية بتحديد الزمان والمكان، بل وحصرت الدعوة في الجيش وليس الحكومة، أي على عكس ما كان يجري في منبر جدة. ليس هذا فحسب، بل علاوة على ذلك قامت بتوجيه الدعوة لأطرافٍ أخرى كمراقبين وذلك للمرة الأولى (مصر، دولة الإمارات، قطر) إلى جانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبي ومنظمة الإيغاد، دون أن تتم مشاورة الطرفين الغريمين، حيث قامت بعدئذٍ بتبليغهما الدعوة. ويبدو أن ذلك كان فعلاً مقصوداً، إما لتضييق الخناق على أي مناورات يُحتمل أن يقوم بها أحد الطرفين أو لتجنب ما لازم منبر جدة من إخفاقات، حيث ظلَّت المفاوضات تراوح مكانها على مدى شهور الأزمة، الأمر الذي أدى إلى توجيه الاتهامات المُكثفة للوسيط بالتقاعس وانعدام الآلية الضاغطة.
ثانياً: سواءٌ كان ذلك التقاعس حقيقة أم وهماً، فقد أدى إلى تحرك دول كبرى لملء ذاك الفراغ، روسيا، الصين، أوكرانيا ثمَّ مؤخراً إيران، وهناك آخرون من وراء حجاب. كان ذلك كفيلاً بقرع ناقوس الخطر الجيوسياسي، لا سيَّما على مقربة تدور الحرب الطاحنة في غزة وتُنذر بالتمدد حيث آبار البترول الذي يُرحل 60% إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، علاوة على 13% من التجارة العالمية تمر عبره أيضاً، أي بما قيمته اثنين ونصف تريليون دولار سنوياً. وراهناً أصبحت المنطقة مرشحة للتصعيد بعد مقتل إسماعيل هنية في طهران.
ثالثاً: اتصالاً مع هذا وذاك لم تكن تلك الخطوة بعيدة عن الانتخابات الأمريكية وما صاحبها من تداعيات. وبذا يمكن القول إن القضية السودانية دخلت دهاليز الانتخابات الأمريكية حرفيا. كما أن طبيعة الوفد ًبالتمثيل الرفيع للإدارة الأمريكية (أنطوني بلينكن وزير الخارجية، ليندا غرينفيلد سفيرة الإدارة الأمريكية في الأمم المتحدة) يكشف عن فحوى الرسالة الموجهة لطرفي النزاع، والتي افتقر لها منبر جدة من قبل وهي (غياب الآلية الضاغطة وضعف التمثيل).
عوداً على بدء، يمكن القول إنه لكل هذه الأسباب وأكثر، تتضح عزيمة الوسطاء في ضرورة أن تضع حرب البلهاء أوزارها لا سيَّما وثمة قناعة تجاوزت السودانيين أنفسهم إلى العالم أجمع وأكدت فعلاً وقولاً أنها حرب عبثية بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولا تجد التأييد إلا من شذاذ الآفاق الذين أشعلوا نيرانها وما فتئوا يقرعون طبولها ليلأً ونهاراً بهدف استمراريتها، لأن توقفها يعني (الموت الإكلينيكي) لهم. كما أن حرص الوسطاء على ضرورة نجاح هذه المفاوضات نابع من قناعتهم بأن تمددها خارج الإطار الجغرافي ينذر بعواقب وخيمة نسبة لما ذكرنا من أسباب. غير أن الأهم من ذلك هو العامل الإنساني حيث أكدت تقارير المنظمات الدولية مؤشرات مجاعة تواجه 25 مليون شخص، أي نصف عدد السكان وهو رقم قياسي لم تبلغه كارثة من قبل.
صفوة القول، نحن لا نعيش في جزيرة معزولة، بل نحن جزء من هذا العالم ديمغرافياً وجغرافياً ولذا من الطبيعي، أن نؤثر ونتأثر بالآخرين. وذلك وحده كفيل بأن تقف هذه الحرب فوراً. فعلى الرغم من إيماننا الكامل بأن قضايانا وإشكالياتها لن يحلها سوى السودانيون أنفسهم. لكن لن نعمل كما يعمل البلهاء (دس المحافير ممن جاءوا لمساعدتنا في دفن جثة الحرب) التي تعفنت وملأت رائحتها النتنة أنوف الأبعدين والأقربين، ولكن كيف السبيل؟
لعل الإجابة المباشرة تكمن في هذه المفاوضات التي حدد لها منتصف الشهر. حيث لا خيار أمامنا سوى دعمها بتنظيم اعتصام تاريخي في المكان المحدد في جنيف، لكي يرانا العالم وتصله الرسالة بأننا تواقون للسلام والأمن والاستقرار. هذا هو سلاحنا الحضاري المُجرَّب الذي أسقطنا به نظام الطغاة في أبريل 2019م ولم تكن تلك المرة الأولى، فنحن نملك الإرادة التي ستسقط بقاياهم وترمي بهم في مزبلة التاريخ. نريد أن نقول للعالم لقد انقلبت حياتنا رأسا على عقب منذ أن حطت على رؤوسنا بغاث الطير وخفافيش الظلام.
إذا كنا فعلاً صادقين في إيقاف هذه الحرب فلنتنادى لتلبية هذه الفرصة التاريخية. ونتمنى من المقيمين في المدن السويسرية، وكذلك الآخرين في دول أوروبا الذين يستطيعون الوصول أن يكونوا أوفيا لهذا الوطن الرؤوم، فهم بهذا الفعل البسيط كمن يؤدي ضريبة وطنية ويرُد ديناً مستحقاً. علينا أن نبتدع ما يلفت الأنظار، نريد أن نقول للعالم شكراً لإنقاذ الملايين الذي يواجهون شبح الموت جوعاً وعطشاً. هي دعوة صادقة من قلب انفطر وجعاً جراء ما حاق بالوطن الوديع، أوصلوها كيفما شئتم ليلتقطها القادرون على التمام ويفعلونها بالمشاركة والمؤازرة والمساندة حتى يعلم العالم بأن مصيرنا ليس بأيدي هؤلاء الفجار!
أما أنتم يا أيها الوالغون في دمائنا الشاربون منها شرب الهيم، الأكالون للسحت المناعون للخير الفاعلون للمنكر، ألم تكفكم طاحونة الموت وما حصدت من أرواح بريئة، أما شبعتم من محنتنا وما تراكم من ماسينا، ماذا تريدون أن تفعلوا بهذا الشعب الصابر أكثر مما فعلتم؟ لقد رأينا حمم الموت تحوم فوق رؤوسنا، على مدى ستة عشر شهراً عايشنا الضيم والظلم والإذلال، شاهدنا الجثث ملقاة على قارعة الطريق تنهشها الكلاب الضالة، قبرنا الأهل والأحباب والأصدقاء في صحارى قفر دون أن نلقي عليهم نظرة الوداع الأخيرة. فقدنا أعز ما يملك الإنسان ولقينا من وجعنا نصباً. كنا موصوفين بالقلوب الرحيمة فأصبحنا غلاظ الأكباد يقتل بعضنا بعضاً. كنا بلد يطعم المسكين ويأوي الضعيف فأصبحنا نتسول الطعام ويأكل أطفالنا من خشاش الأرض والناس يموتون جوعاً وعطشاً. تباً لكم وتب!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر.
# فلتقف حرب البلهاء،