تم التحديث: 2025-08-17 14:40:03

الكوليرا في دارفور: وباءٌ يمشي على جثث الحرب
يوسف عبد الله
كأن الحرب لم تكن كافية. فبعد عشرين شهرًا من الدم والرصاص والنزوح، يأتي وباء الكوليرا ليكمل دائرة الخراب في دارفور، وكأنه يوزع الموت في صمت، بلا هدير طائرات ولا دوّي مدافع. الأرقام وحدها تفضح الفاجعة: أكثر من6457 حالة منذ بدء التفشي، منها 264 روحًا أزهقتها المياه الملوثة قبل أن تتمكن حتى من طلب الدواء. في طويلة وحدها تجاوزت الحالات أربعة آلاف، ونيالا وكلمة وعطاش ودريج تتناوب على أرقام الموت، بينما جبل مرة يقدّم حصته: قولو بواحد وخمسين وفاة، وجلدو بثمانٍ، وروكيرو بخمس، وفينا بحالتين فقط، لكنها كافية لتقول إن النار وصلت إلى العشب اليابس.
إنها خريطة مرسومة بالدموع لا بالحبر: مخيم كلمة بأربعٍ وثلاثين وفاة، عطاش بخمسين، دريج بأربع، شعيرية وحدها بثماني عشرة، وزالنجي وأزوم والحصاحيصا والحميدية يضيفون سطورًا جديدة إلى سجلٍ لم يعد الناس يجدون فيه مكانًا فارغًا. الكوليرا لا تحتاج إلى إذن عبور، هي تتسلل إلى كل مكان فيه ماء ملوث أو جسد ضعيف أو خيمة مزدحمة.
2
لكن القصة ليست في الأرقام وحدها، بل في المعنى الذي تحمله. هذا المرض ليس قدرًا إلهيًا نازلًا من السماء، بل نتيجة مباشرة للحرب التي مزقت البنية الصحية، وأخرجت الناس من قراهم إلى معسكرات مكتظة لا ماء فيها ولا صرف صحي، وحولت الأطفال إلى ضحايا محتملين قبل أن يتعلموا المشي. الكوليرا ليست وباءً طبيًا فقط، هي في السودان اليوم وباء سياسي وأخلاقي، لأنها تفضح دولة تخلت عن مواطنيها، وتكشف سلطة انشغلت بحروب السلطة عن حروب النجاة.
ومع ذلك، وسط هذا الظلام، هناك خطوط مضيئة لا تُرى في نشرات الأخبار: متطوعون محليون يطرقون أبواب الخيام حاملين دلو كلور، نساء يحوّلن الجرادل إلى عيادات متنقلة، وغرف طوارئ تُدار من أطباء بلا معاشات ولا رواتب، يقاتلون المرض بصدور عارية. لكن السؤال يبقى: هل تكفي هذه الجهود الخجولة أمام وباء يتسع كل يوم كحريق في قش يابس؟
دارفور، التي كانت منذ عقدين مسرحًا لأول جريمة جماعية في هذا القرن، تعود اليوم لتكون عنوانًا لمأساة جديدة، لكن هذه المرة بلا صور الدبابات ولا الطائرات، بل بجثث صامتة على أسرة العزل. وكأننا أمام ملحمة موت لا تنتهي: حين يسكت الرصاص، يتكلم الماء الفاسد.
العالم مطالب أن ينظر، لكن دارفور تعلمت منذ زمن بعيد أن العالم يرى ولا يتحرك إلا ببطء قاتل. لذلك فإن السؤال الحقيقي ليس فقط: متى تأتي المساعدات؟ بل: متى يكف السودانيون أنفسهم عن إنتاج بيئة الموت هذه، سواء عبر الحرب أو عبر الإهمال؟ الكوليرا اليوم ليست مجرد جرثومة، بل مرآة كاشفة، تعكس حال بلد فقد مناعته السياسية والأخلاقية قبل أن يفقد مناعته الصحية.

