تم التحديث: ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٥ 17:53:05

عندما تصبح الهدنة مجرد مناورة
في حرب 15 أبريل لم تعد المسيرات والرصاص وغيرها، هي السلاح الأخطر، إنما أضحت السرديات وصراع الصور وأخبار الميديا والهدن الإنسانية المؤقتة، أدوات سياسية أكثر تاثيرا على مجريات الأحداث ومعارك الميدان.
ما يحدث في السودان اليوم يكشف تحولاً خطيراً في طبيعة إدارة الصراع، حيث يحاول كلا الطرفين أن يعيد رسم المشهد الدولي عبر تأليف قصص وسرديات كبيرة، لا عبر القوة العسكرية وحدها، وإنما عبر جيوش غامضة تختبيء في غرف مظلمة بعيدا عن الواقع تعمل مأجورة على هذه السرديات.
مكاسب الميدان
الدعم السريع الذي يتهم بانتهاكات واسعة لا يوثّق جرائمه بدافع الغباء أو الارتباك، بل لأن ذلك جزء من إستراتيجية متكاملة تستهدف خلق ضغط خارجي في اللحظة التي تناسبها. إعلان الهدنة الأخيرة لثلاثة أشهر ليس مبادرة إنسانية، بل خطوة محسوبة جاءت بعد تحقيق مكاسب ميدانية، في توقيت يتيح لها إعادة ترتيب صفوفها بينما تُحمِّل المجتمع الدولي مسؤولية لدفع الجيش إلى التراجع.
اما سياسة سلطة بورتسودان، فلا تعدو سوي أنها محاولة لتثبيت أركان ديمومتها وفق خطاب مراوغ يشحذ همة مواطنيه بسرديات الوجود، ويدفعهم دفعا صوب العدم. وأي حديث عن هدنة إنسانية يظل محض هراء، وهروب نحو توريط الطرف الآخر في المزيد من الانتهاكات.
فحين كانت قوات الدعم السريع تحاصر مدينة الفاشر وتهاجمها، لم تُبدِ أي مرونة أو استعداد لوقف القتال. كانت وقتها الطرف المُهاجم والمُحاصر، وترى في استمرار الحرب فرصة لفرض واقع جديد. واليوم فقط، حين تبدلت موازين الميدان، تطرح هدنة وتتبنى لغة السلام. الهدف الحقيقي ليس وقف إطلاق النار، بل صناعة صورة جديدة تُظهرها كطرف (منفتح)، بينما يُدفع الجيش إلى زاوية الظهور كطرف (متصلب) إذا رفض الهدنة.
الهدنة مدخل سياسي
صارت الهدنة الانسانية مناورة لكليهما، تهدف إلى تحويل الضغط الدولي من الفاعل إلى الضحية، ومن المعتدي إلى الطرف الذي يسوّق نفسه كباحث عن السلام.
لكن الأخطر هو ما يلي الهدنة. فور تثبيت وقف القتال يبدأ المسار الذي تم اختباره في نزاعات عديدة. ضغوط متصاعدة للدخول في مفاوضات سياسية عاجلة، تُطرح فيها من جديد مشاريع تقاسم السلطة أو صيغ الحكم الذاتي، أي إعادة هندسة السودان سياسياً وجغرافياً بما يرسّخ الانقسام ويُضعف الدولة. الهدنة هنا ليست نهاية الصراع بل بوابته السياسية، وهي اللحظة التي يُعاد فيها تشكيل مستقبل البلاد من خارج إرادة السودانيين.
اما المشهد الدولي فيبدو في هذا الراهن المرتبك ايضا لاعبا بورقة الهدنة الإنسانية لتبني منهجا يعيد الازمة لمربعهاالاول وهو سينياريو يعيد تقسيم الادوار وفقا لمصالح دول المبادرة.
الهدنة هى عملية وقف العمليات الحربية بناء على اتفاق المتحاربين. ودرجت العادة على الهدن فى النزاعات الدولية، حيث ان الاتفاق يجب ان تتم موافقة دول طرفي النزاع عليه، لا يوجد تعريف مباشر للهدنة الانسانية فى ميثاق الامم المتحدة لكن التعريف اعلاه مستمد من فقهاء القانون الدولى. والهدنة الانسانية قد تتم لدخول المساعدات الانسانية او التخفيف على المدنيين فى سياق النزاع.
فى القانون الدولى الانساني تنظم الهدنة الفصل الخامس اللائحة المتعلقة بقوانين واعراف الحرب البرية الذي اعتمد فى مؤتمر لاهاي للسلام لسنة ١٩٠٧، وقد تكون هدنة شاملة او جزئية فى بعد مناطق النزاع. وهنا يمكن الملاحظة ان محادثات جدة بين الجيش السوداني والدعم السريع حاولت اختبار الهدنة فى بداية حرب السودان، ورغم قصر المدد وفشل المنبر فى المواصلة لكن استفاد الكثير من المواطنبن منها فى الحركة الى مناطق امنة، أو العودة الى مناطقهم بعد ان تقطعت بهم السبل خلال فترة القتال، وتحول حال البعض الى مرحلة اولية للبحث عن المفقودين.
و تنص المادة ٤٣ من اتفاق لاهاي المشار اليه، الى ان الهدنة تتم بعد بدء سريان الموعد المحدد واخطار كل طرف لسلطاته، وان الخرق من احد الاطراف سبب لتنصل الطرف منها، وتتم مراقبة الهدنة باعتبارها قد تقود الى مدخل للحل السياسي، لان الحلول للنزاعات تبدا بطرفي النزاع فى عملية الهدنة، ثم قد يرتب نجاحها الدخول فى العمليات السياسية او اتفاقات السلام.
وقف اطلاق النار يعرف ايضا بوقف جميع العمليات العسكرية لفترة تحدد فى كل منطقة النزاع او جزء منها وقد تاتي نتيجة لاعلان احد الاطراف واستجابة الطرف الاخر او عن طريق التباحث المفضي للوقف فى ٢٠٠٤ كانت هنالك بغثة افريقية لمراقبة وقف اطلاق النار فى دارفور.
فشل منبر جدة
منبر جدة حاول وضع طرفي النزاع السوداني امام القانون الدولى الانساني فى حالة تعدد فى الاطراف فى كل فريق داخليا وخارجيا الامر الذي يكشف احد اسباب فشل المنبر.
الطريق إلى السلام في السودان طريق وعر، ومحفوف بالنوايا الكاذبة، وتواريخ نقض العهود والمواثيق. لم يمن الله علينا بقيادة سياسيَّة جدَّت في إحلال عمليات السلام وإيقاف الحروب. فهو إما سلام مؤقَّت ناجم عن توازن إرهاق جرَّاء استمرار الحرب لفترة طويلة كما في حالة حرب الجنوب، أو سلام نفعي قصير الأمد ومتحايل كالسلام الذي أبرمته حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في العام 1997 (اتفاقيَّة أبوجا) و(اتفاقيَّة فشودة). إذ لم يكن السلام نفسه هو المراد، بل كان الهدف هو التهيؤ لحراسة وتأمين خطوط البترول واستدامة عمليَّات الضخ بدون مخاوف من هجمات الحركة الشعبيَّة لتحرير السودان.
أزمة كلية
يظهر انعدام إرادة السلام كسمة سائدة لكل الاتفاقيَّات التي أبرمت سابقاً. فقد كانت اتفاقيات جزئيَّة لا تنظر إلى مشكلة الحرب والسلام كمشكلة كليَّة ضمن محاور الأزمة الوطنيَّة بل تسعى لتجزئتها إقليمياً بين الجنوب والغرب والشرق ولا تعالج الأسباب الجوهريَّة للصراع الذي نشبت بموجبه الحرب.
وبما أن الحرب في السودان ليست عرضاً طارئاً على مسارات تاريخنا الوطني والسياسي، بل هي أزمة كليَّة ناتجة من غياب العدالة واختلال موازين التنمية والعمران بين جهات السودان المختلفة. وبالتالي فإن تجزئة عمليات السلام لا تهدف إلى حل جذور الأزمة بقدر ما تهدُف إلى إيقاف مؤقَّت للحرب حتى يشتعل أوارها في وقت لاحق.
ليست هنالك اتفاقيَّة سلام في السودان كان هدفها الأوَّل والأخير هو إسكات صوت البنادق مرَّة واحدة وإلى الأبد، بل ظلَّت في معظمها محصورة في محاصصات سياسيَّة واقتسام لمقاعد السلطة والثروة وكثيراً ما يغيب الإنسان كهدف لعمليات السلام في السودان.
الطريق للسلام في السودان لن يأتي طالما ظلَّت المشكلات الموقدة لشرارة الحرب مستمرة في الوجود. لدينا مشكلة حقيقية في نظام الحكم المركزي ولدينا مشكلة حقيقية في اختلال موازين التنمية والتعليم والصحة والخدمات، ولدينا تصوُّر خاطئ عن ضرورة محو الاختلاف الثقافي وإعادة إنتاج المجتمعات على هيئة المركز الواحد. وما لم يتحوَّل التفكير في السلام من خانة المناورة السياسيَّة واقتسام المناصب وتجزئة الأزمة السودانيَّة ويتحوَّل إلى هدف في ذاته، يمكننا إخماد حربنا هنا وهناك مؤقتاً لكنها ستنفجر في وجهنا مرَّة أخرى بكل تأكيد.


