
الجودية، تقليدٌ عريقٌ في صنع السلام، يكتسب أهميةً جديدةً في السودان
المصدر: Okayafrica.com
مع ضعف المؤسسات الرسمية في مواجهة الصراعات، تلجأ المجتمعات الريفية إلى أساليبَ قديمةٍ لحل النزاعات للحفاظ على النظام.
في مايو 2024، تفاقم نزاعٌ بدا بسيطًا في السوق بين أفراد قبيلتي السلامات وبني هلبة في كبوم بجنوب دارفور إلى صراعٍ مسلحٍ أسفر عن حرق منازل ونزوحٍ واسع النطاق.
ووفقًا لشاهدٍ محليٍّ فضّل عدم الكشف عن هويته، بدأ العنف بشجارٍ على الماشية في سوقٍ محلي. وسرعان ما تطور إلى مواجهةٍ قبلية، أدت إلى تدمير السوق ونهبٍ واسع النطاق وسقوط عشرات القتلى.
شمل الصراع مجموعتين قبليتين مختلفتين: بني هلبة، وهم رعاة ماشية عرب يتمركزون بشكلٍ رئيسي في عد الفرسان، والسلامات، وهي قبيلةٌ أخرى من الرعاة العرب ذات جذورٍ تشادية استقرت في وسط دارفور منذ حوالي عقدين من الزمن.
مسار تقليدي للسلام
لوقف تصاعد العنف، استخدم شيوخ القرى عادة قديمة تُسمى "الجودية". جمعوا الطرفين، واستمعوا إلى مظالمهما، وتوسطوا في اتفاقية سلام لم ينتهكها أيٌّ منهما حتى الآن، مما عزّز التحالف بين القبائل.
منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في أبريل 2023، اكتسبت هذه الطريقة التقليدية لحل النزاعات، المتجذرة بعمق في المجتمعات الريفية والبدوية السودانية، أهمية غير مسبوقة. يقول أفراد المجتمع إن هذه الوساطات ازدادت من مرة أو مرتين سنويًا إلى خمس أو ست مرات على الأقل كل شهرين.
يقول عالم الاجتماع ياسر عيسى لموقع "أوكاي أفريكا": "في وقت يبدو فيه خيار السلام بعيدًا، أصبحت العودة إلى وسائل بديلة لتحقيق وبناء السلام المجتمعي أمرًا لا مفر منه".
ويتابع عيسى: "يعتمد بناء السلام بشكل أساسي على معالجة الأسباب الكامنة وراء النزاع، إلى جانب دعم المجتمعات المحلية لإدارة خلافاتها وصراعاتها دون اللجوء إلى العنف"، مشيرًا إلى أنها عملية طويلة الأمد تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين. مع نزوح أكثر من سبعة ملايين شخص وضعف نظام العدالة الرسمي، تعتمد المجتمعات بشكل متزايد على الجودية للحفاظ على النظام ومنع تفاقم النزاعات المحلية وتحولها إلى عنف أوسع نطاقًا.
ما هي الجودية؟
بعد المواجهة الدامية بين القبيلتين، عقد شيوخ وزعماء المجتمع جلسة صلح تحت شجرة لالواب كبيرة في مركز السوق، وهي مساحة تجمع تقليدية لمثل هذه الوساطات. في بعض الحالات، تُعقد هذه الجلسات في مساجد الأحياء. وخلال الجلسات، تعهد الطرفان بإعادة المسروقات ووقعا اتفاقية سلام فرضت عقوبات صارمة على المخالفين.
يقول المحامي محمد حسن لموقع أوكاي أفريكا: "مع اندلاع الحرب، أصبحت عملية بناء السلام وإرساء دعائمه في السودان أكثر تعقيدًا، نظرًا لتأثرها بتاريخه الطويل من الحروب والصراعات والصراعات السياسية والقبلية". ويضيف: "هنا تمكنت المبادرات الاجتماعية وآليات تحقيق السلام، مثل الجودية، من سدّ الفجوة".
انطلاقًا من مفهوم معناه العربي - الكرم المفرط - تُركز الجودية على التسامح وتُعطي الأولوية للوئام المجتمعي على المصالح الشخصية الضيقة.
يقول حسن: "تحظى الجودية بشعبية خاصة في المجتمعات الهامشية التي تتميز بالتضامن العضوي، على عكس المجتمعات المركزية التي تميل إلى التضامن الآلي". يلعب هذا النظام دورًا حاسمًا في الوساطة المجتمعية، لا سيما في المجتمعات الريفية التي تعاني من ضعف المؤسسات الرسمية وغياب شبه كامل للأنظمة القضائية.
يتمحور الهدف حول تحقيق توافق بين الأطراف المتنازعة. ويوضح حسن: "يضمن شيوخ المجتمع استعادة العلاقات إلى حالتها الطبيعية ومنع المزيد من التصعيد. وتكون النتائج ملزمة ومقبولة من جميع الأطراف".
عملية الجودية
يقود مجلس الجودية عادةً قرية معروفة بالحكمة والصدق والحياد والخبرة الواسعة في حل النزاعات المماثلة. ويبدأ المجلس بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تحث على المصالحة والتسامح وتجاوز الخلافات مع الحفاظ على العدالة لجميع الأطراف.
يقول حسن: "النهج هو التركيز في المقام الأول على إيجاد الحلول، وليس على إلقاء اللوم". يقول الشيخ علي، أحد كبار أفراد قبيلة كانمبو في غرب السودان، وهي جماعة عرقية من تشاد، لموقع أوكاي أفريكا إن الجودية ليست مجرد وسيلة للمصالحة، بل هي جزء من هويتهم الثقافية. ويضيف: "تحظى قرارات مجالس الجودية بقبول واسع لأنها نابعة من العادات المحلية، لا من القوانين المكتوبة التي قد لا تراعي الفروق الثقافية بين المجتمعات".
نظام عدالة موازٍ
يقول عالم الاجتماع عيسى: "يحتاج المجتمع البشري باستمرار إلى آليات ضبط اجتماعي لتحقيق التوازن الاجتماعي وترسيخ مبدأ العدالة". ولتحقيق ذلك، يجب على المجتمع إنشاء نظام تقاضي يحكم الأفراد والجماعات. في السودان، تُقام "الجودية" إلى جانب نظام العدالة الرسمي. وقد ساهم هذا الأسلوب من التقاضي المجتمعي في حل النزاعات القبلية لقرون، وتعويض المتضررين، وردّ الظلم، والتوصل إلى تسويات، كما يقول.