
الطفولة المُهدرة في قسوة الحرب
خاص ـ مواطنون
ساهم غياب الدراسات الاجتماعية حول حرب دارفور ٢٠٠٣، والترفع الأكاديمي والثقافي في مركز الخرطوم، عن تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال، في غياب التعليم والصحة وفرص الحياة الكريمة واشراقات المستقبل، مما أعاد كرّة اشتعال الحرب في ٢٠٢٣. فمعظم جنود الحرب الحالية كانوا أطفالا في زمن حرب دارفور، بحسب مفكرين وخبراء تحدثوا لـ"أتر"، أكدوا أن الأطفال هناك بقيت ذاكرتهم حية بالمشاهد المروعة للدماء والقتل وسيرة الحرب وقيم الانتقام ولم يعاد دمجهم في قيم السلام والتسامح ويستوعبوا في سلك الدولة ومعالجة أوضاعهم الاجتماعية والنفسية وتوظيف ثروات الاقليم الثرة في ضمان مستقبل مشرق لهم، في ظل انفتاح مغاليق الوجود المحلي والبسيط على عالم الميديا والشعور الكثيف بالتضامن مع قضايا تمس أطماع المركز في مصادرة الحق في الحياة والحريات وتغوله على الثروات الخاصة لاقليم بحجم دولة فرنسا، والانتشار الكثيف للسلاح وتدريب الأطفال على استعماله في سن باكرة؛ فرواحت الأزمة مكانها بعد مرور عقدين وتصدى أطفال ذلك الزمن لمعالجة الأزمة من وجهة نظر عنيفة في ميدان أوسع شمل نحو 70% من خارطة السودان، بعد دخول معطيات جديدة وأطماع أكبر، اقليمية وايدلوجية.
مِهاد قاسية في الشتات
يؤكد المفكر محمد عبد الرحمن "بوب" أن هنالك امران مهمان فيما يخص غياب الدراسات الاجتماعية حول النزاعات المسلحة في السودان، خاصة حرب دارفور، فالامر الأول، بحسب حديثه مع "أتر"، وبعيدا عن الاطار النظري، مثلما يقول، هو الخروج من نفق المنظمات والمعسكرات والاغاثة. ويضيف: "نموزج حرب الجنوب وحرب دارفور ظل يدفع باجيال مختلفة لاتون نزاعات أخري". ويسوق مثلا بحرب ا"لانانيا ون" و"الانانيا" في ستينات القرن الماضي انها انتجت نواة "الجيش الشعبي لتحرير السودان" في الثمانينات، "فالاطفال الذين عاشوا هذه الصراعات، سيكونون لاحقا، بعد عقدين فقط، وقود صراع اخر وهكذا...".
ويستشهد عبد الرحمن بحرب التحرير في ارتريا وحركة الشباب الاسلاميين في الصومال، وخطورة ان يتحول الأطفال لضحايا عنف ما او نزاع مسلح. "تاتي خطورة تدخل المنظمات في أنها تنزع الطفل من النشوء والترعرع في مهاد الغطاء الاجتماعي الطبيعي، وسياقات التمتع بتقاليد المجتمع وتلقي تعليما رسميا". محذرا أن بقاء الأطفال في الشتات والمعسكرات ينمي لديهم ذاكرة أخرى تقع مسؤولية بحثها على حقل الدراسات الاجتماعية، بعيدا عن خطل السرديات السياسية التي تطمر الحقية وتضيعها. "فالدراسات الاجتماعية من شأنها سبر غور الحقيقة، واستعادة استيعاب الضحايا، بعيدا عن عمل المنظمات والخدمات المستجلبة من تعليم وصحة". يقول لـ"أتر" ويضيف "هذا هو ما يجلب الحرب من جديد بعد عشرين عاما. فخطورة الركون لحلول المنظمات تخلق جيلا غير منتمٍ، مُنتهك الحقوق ومنفصلا عن المجتمعات الطبيعية ومُبعدا عن مركز الفعل السياسي، وليس لديه نظاما سياسيا يحميه، فهذا ما حدث في دارفور وجبال النوبة وعموم القرن الافريقي، حيث شكل الأطفال المورد الأساس لتغذية الحروب المزمنة والطويلة".
ولا يرى عبد الرحمن حلا في الوقت الراهن، "لأنه ليس هنالك قوة اجتماعية منظمة وفاعلة، ولا رغبة للجيش مثلا في الحلول، فكلما تأخر الحل زادت مساحات التشتت، وزادت القناعات لدى الفارين من الحرب بانعادم القدرة علي بناء مجتمعاتهم مرة أخري". ويضيف: "الكارثة تكمن في عدم الانتباه الي أن اجيالا تنمو وتكبر في ظل هذا الشتات". ويتساءل: "كيف تمسح الذاكرة الجمعية للاطفال كل ذلك الخراب؟" ويقول ستنتفي الحلول السلمية لدى الأطفال لأنها لم تكن جزءً من تكوينهم خلال عقد من الزمن علي الاقل، ولا جزءً من خبرتهم السياسية. "فقط من خلال العنف".
اللعب بجنة الطفولة
لا يتوانى قانون الطفل السوداني لسنة 2010 في مادته الثانية في الدفاع عن حق الطفل في الحياة والنمو، وينص في مواده الرفيعة نظريا على أن تكون لحماية الطفل ومصالحه الأولوية في جميع القرارات، أياً كانت الجهة التي تصدرها، مؤكدا على الخيارات التي تخدم مبدأ مصالح الطفل الفضلى وايلاء الاعتبار الأول لها.
"أليس لأطفالنا الحق في البقاء والنماء والعيش بسلام؟" يتساءل الخبير في حقوق الطفل ياسر سليم، "كيف نضمن حق الحياة والبقاء للأطفال دون الدعوة لوقف الحرب ووقف الاثار الكارثية للحرب على الأطفال". ويضيف في حديث مع "أتر": "الأطفال أولا في جميع الأمور". ويشرح سليم، أن أحكام قانون الطفل في مادته الثالثة تسود أى حكم يتعارض معه، تأويلا لمصلحة الطفل وينص على ضمان حماية الطفل ذكراً أو أنثى، من جميع أنواع وأشكال العنف أو الضرر أو المعاملة غير الإنسانية أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية، وإتخاذ التدابيرالملائمة لتحقيق التأهيل البدني والنفسي وإعادة الإدماج الإجتماعي للطفل الذي يكون ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة أو التعذيب أو أي شكل من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية المهينة أو النزاعات المسلحة. ويتساءل مجددا، هل يمكن ذلك دون مناصرة وقف الحرب وانهاء مأساة وويلات ومعاناة الأطفال؟.
تؤكد منظمة الطفولة العالمية يونسيف في نشرة لها أن ١.٦ مليون طفل وطفلة نازحين بحاجة إلى مساعدة، بما فيهم من يعيشون في المناطق المتضررة من النزاع. ٦١٪ من الأشخاص النازحين داخلياً في المخيمات هم من أطفال. ٦٥٪ من اللاجئين تقريباً في السودان هم أطفال. يعاني الكثير منهم من الصدمة قبل وأثناء رحلتهم إلى السودان، مما يعرض الأطفال لخطر أكبر من الإيذاء والاستغلال والعنف. يشكل الأطفال حوالي ٦٠ ٪ من عدد الأشخاص النازحين.
وتضيف يونسيف، يعاني ما يُقدّر بـ ٢.٣ مليون طفل وطفلة من سوء التغذية وتُعزى تقريباً نصف حالات وفاة الأطفال دون سنّ الخامسة إلى سوء التغذية. ويعاني٦٩٤,٠٠٠ طفل وطفلة من سوء التغذية الحادّ الوخيم ويصارعون من أجل البقاء. من بين الولايات ال ١٨ في البلاد، تعاني ١١ ولاية من انتشار سوء التغذية بنسبة تزيد عن ١٥٪ وهذه النسبة أعلى من عتبة الطوارئ حسب معايير منظمة الصحة العالمية. يعاني واحد من كل ستة أطفال في السودان من سوء التغذية الحادّ. يحتاج حوالي ٨٢٠,٠٠٠ طفل وطفلة دون سنّ الخامسة إلى الحصول على الرعاية الصحية، بما ذلك التطعيم والخدمات المنقذة للحياة الأساسية. حوالي ٣٦٪ من مرافق الرعاية الصحية الأولية في جميع أنحاء السودان هي مرافق غير صالحة تماماً للعمل، إما بسبب نقص في طواقم العمل أو بسبب تردي البنية التحتية المادية.
ويقول سليم إن تأثير الحرب على أطفالنا واضح بإحصاءت كثيرة متوفرة من مختلف الجهات ومن المشاهدات والملاحظة اليومية. "أكبر أزمات النزوح وأسوأ الأزمات التعليمية والغذائية والصحية في العالم". ويضيف: "يعاني أطفالنا من كوارث لا تحصى ولا تعد ويطاردهم كابوس الحرب التي طال أمدها. أضف الى ذلك معاناة الفيضانات والسيول والأمراض". ويكشف أن كل ذلك يتنافى مع المبادئ الاساسية للمصلحة الفضلى للطفل المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. "لا خيار أبدا، وخاصة لمن يناصرون الطفولة، إلا بالمناداة بوقف الحرب من أجل المصلحة الفضلى للأطفال ومن أجل ضمان المبدأ الأساسي لحقوق الطفل وهو العمل على ضمان حق الحياة والبقاء للأطفال، فتنمية الطفولة ورعايتها، بنص القانون، إلتزام دينى وانساني ووطني وقومى (المادة 2ن) ".
ترويع البراءة .. انتشار السلاح
يشكل عدد أطفال السودان نصف عدد إجمالي السكان البالغ 40 مليون شحص، تحسنت خلال العقدين الماضيين أوضاعم المعيشية، وانخفض عدد وفيات الأولاد والبنات قبل بلوغهم السنة الأولى من أعمارهم. وتزايدا في معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية، وتشهد البلاد خلوا من مرض شلل الأطفال، نسبة للتغطية العالية للتطعيمات. ومع ذلك، تقول يونسيف، ما زال ملايين الأطفال يعانون من الصراع المزمن، ومن الكوارث الطبيعية الموسمية وانتشار الأمراض، وكذلك من نقص الاستثمار في الخدمات الاجتماعية الأساسية. ويصنف السودان في الوقت الحالي واحدا من البلدان الأسوأ في العالم من حيث نقص التغذية، ويبلغ عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس ممن هم في سنّ المدرسة ثلاثة ملايين طفل وطفلة.
يتحرق الطفل محمد ذو الـ10 سنوات لانقضاء العام الدراسي للعودة للعمل في "عبور شندي" وبيع الايسكريم ومطاردة الباصات السفرية لبيع السندوتسات والبسكويت للركاب، حيث يتربح بنحو عشرة جنيهات صافية عن اليوم الواحد. "كثيرا ما نركب البصات السفرية للبيع في محطات مقبلة ونعود ببص اخر نهاية اليوم". يقول لـ"أتر".
نزح محمد مع والديه من أمدرمان، ووجد نفسه في بيئة اجتماعية مختلفة، تقرعمل الأطفال وتدفعهم في سن باكرة للسوق دون الاهتمام بترقيتهم في التعليم ومواصلة الدراسة فانخرط، رغم تفوقه في الدراسة وتحصيله الممتاز، في البيع والشراء، من دون أن يترك مقاعد المدرسة حتى الآن، وربما يكون مستقبله في التعليم على المحك، فعشرات الأطفال في القرية التي نزح إليها هذا الطفل يذهبون كل صباح بحثا عن الرزق ومن ثم يتركون الدراسة في سن باكرة، وبقوة الضغط الاجتماعي يحاول محمد تقليدهم، سيما أنه وجد أمه تنخرط في البيع والشراء لمساعدة الأب لمجابهة ورطة النزوح التي وجدت الأسرة انها عالقة فيها. في المقابل، تساعد الطفلة ريان، ذات الـ13 عام، والدتها في أعمال بيع الطعام في سوق الديم بشندي، حيث استأجرت الأم "كشكا"، مطعما ومأوى طوال سحابة النهار. نزحت ريان ووالدتها وشقياتها من "حي النخيل" في امدرمان، بعد اشتداد المعارك العنيفة هناك، وتعطلت دراستها في المرحلة المتوسطة لعامين، متفرغة لتقديم الطلبات للزباين وغسل الصحون, وتراقب الأم حركة طفلتها حماية لها من التحرش الذي تتعرض له بين الحين والاخر. "كنت بين خيارين، مواصلة الدراسة واضفاء أعباء أخرى على أمي أو مساعدتها في العمل. اخترت مساعدة أمي والتضحية بالمدرسة دون مناقشة". تقول ريان في حديثها مع "أتر".
تعيق الحرب توفير متطلبات الأطفال وعائلاتهم الاساسية في الغذاء والماء والمأوى والخدمات الصحية والتعليم، مما يؤدي إلى حرمان الأطفال من نموهم البدني والاجتماعي والعاطفي والنفسي. وتفرض شروطها القاسية عمل الأطفال في مناطق الحرب كجناة، ويصبحون جنودًا أطفالًا. وتشير التقديرات إلى أن هناك حوالي 300 ألف جندي طفل في جميع أنحاء العالم و40% منهم من الفتيات، ضحايا للنزاعات المسلحة. ويجبرون على إخلاء مساكنهم ويعانون من الأمراض المنقولة جنسيا, وخلفت حرب ابريل، بمشاهدها المروعة وجنوحها عن قيم الحرب بارتكاب جرائم انسانية فظّة ومشاهد السحل والنهب الممنهج، وانتشارها اليومي الكثيف في الوسائط الاجتماعية، ومعسكرات الاستنفار في الاحياء وعادية حمل وانتشار السلاح، خلفت دمارا نفسيا هائلا لدى الأطفال السودانيين، من دون مراعاة لوضع الحواجز والمصدات التي تعزلهم عن سيرتها اليومية المتوحشة وتجنبهم أن يكونوا جنودها المقبلين، بعمل الدراسات والبرامج التي تحد من خطورة تفاقم الأوضاع الإنسانية والنفسية للأطفال، حيث يلعب الدعم النفسي دورًا حيويًا في إعادة بناء الحياة وتعزيز القدرة على الصمود وتعزيز التعافي المستدام في أعقاب الصراع والنزوح.
يقول الأكاديمي والمختص الاجتماعي مبارك مامان في حديث مع "أتر": "يؤثر النزوح بسبب الحرب بشكل كبير على الأطفال" ويضيف: "الدعم الاجتماعي والنفسي أمر حيوي للأطفال، لمعالجة تجاربهم والتغلب على التحديات وبناء أساس للنمو الصحي، ويعالج الحواجز النفسية التي تحول دون الاندماج وإعادة الإدماج، مما يسهل عملية انتقالية أكثر سلاسة".
ومثل ما يساعد الدعم النفسي في عملية التكيف، فانه يقلل من وصمة العار المرتبطة بتحديات الصحة العقلية، مما يشجع الأفراد والاجئين العائدين إلى بلدانهم الأصلية أو المندمجين في مجتمعات جديدة، على الوصول إلى المساعدة التي يحتاجون إليها، "بما يمكنهم من مواجهة التحديات والشكوك المستمرة بقوة أكبر"، يقول مامان، مضيفا كلمة واحدة أخيرة "باختصار، يتطلب الأمر تكاتف الجهود من الاكادمين وخبراء الصحة النفسية والاخصايين الاجتماعيين".