30/10/2024

المليشيات في السودان.. كيف نحولها من نقمة إلى نعمة

أمير بابكر عبد الله
الوضع الراهن في السودان يتطلب تفكيراً خارج الصندوق. على الصعيد الشخصي استفدت كثيراً من تجارب كثيرة مريرة بتحويل آثارها السالبة إلى ما هو موجب، وأعتقد هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر للخروج من المأزق الذي ورطتنا فيه دولتنا الغائبة بتحويل تكاثر المليشيات والجيوش غير النظامية الذي نغرق الآن في مستنقعه إلى نعمة تضع اللبنات الأولى لبناء الدولة التي نحلم بها.

هناك عدة معطيات يجب التطرق إليها أولاً لتضعنا في مربع التفكير الإيجابي مستقبلاً، وهي متعلقة بالفوضى الراهنة التي يجب تفكيكها ونفض الغبار عنها وإعادة ترتيبها بما يخدم بناء دولة المواطنة التي يتراضى عليها الجميع. وقد نشرت كتاباً خلال الفترة الماضية "سلام السودان.. مستنقع المليشيات والجيش غير النظامية"، تناولت فيه الظاهرة بمختلف جوانبها ومآلاتها، كما كتبت عدداً من المقالات على فترات متباعدة كانت تبحث في تأسيس علم اجتماع عسكري قادر على تقعيد الحالة السودانية.

أول هذه المعطيات هو الاعتراف بأننا نتواجد في حدود دولة دون تراضٍ، وإنما قسراً، مع حقيقة أننا عشنا داخل حدود هذه الدولة ما يكفي من الوقت لتتخلق بيننا مشتركات تفوق الاختلافات. لقد آن الأوان أن نفكر بجدية في صياغة عقد اجتماعي، تأخر كثيراً، قائم على هذه المشتركات ووضع الآليات الكفيلة بإدارة الاختلافات لتصب في مصلحة المصير الواحد القائم على المواطنة.

المعطى الثاني هو المؤسسة العسكرية؛ ورث السودان بعد نيله استقلاله مؤسسة عسكرية مهما تناولنا ما فيها من قصور إلا أن الثابت هو أنها أكثر منظومات ومؤسسات الدولة نظاماً بحكم طبيعتها الوظيفية. وظل الخلل الذي وسم أداءها طوال فترة الحكم الوطني مرتبط بغياب العقيدة الشاملة للدولة، كما كتبت في مقال سابق "الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة". واحدة من الملاحظات المهمة التي ترفع من أسهم المؤسسة العسكرية هو طبيعتها وقدرتها على استيعاب التنوع والتعدد بحكم قوانينها الموضوعة وبحكم العرف السائد.

يجب النظر بعين الاعتبار إلى أن المؤسسة العسكرية ظلت، طوال فترات الصراعات الداخلية، الأكثر تماسكاً. كما إنها مثلت لكل الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد الهاجس الأول، فالكل ينظر إليها بعين الريبة والتوجس. لذلك دائماً ما تضع الأنظمة التي تسيطر على الحكم، وبالأخص تلك التي تأتي بإسمها "إنقلاباً"، كل الاحتياطات اللازمة لعدم استغلال قدراتها في الخروج عليها. هذا ما فعله الرئيس جعفر نميري وما فعله الرئيس عمر البشير، بالاتجاه لتكوين قوى موازية لأضعافها، تحت دعاوى مختلفة ومختلقة لتحجيمها وتعطيل قدراتها وإن لزم الأمر مواجهتها عسكرياً.

المعطى الثالث هو القبلية والمليشيات؛ ظاهرة تفشي القبلية وتداعياتها على المشهد السياسي السوداني، ليست وليدة اليوم، ولكنها تفاقمت بصورة كبيرة منذ حكم الإتقاذ، ووهي ظاهرة مرتبطة وثيقاً بالمعطى الأول. كما إنها ارتبطت بظاهرة المليشيات ودفعت الدولة في ظل عجزها المستمر إلى تبني كل قبيلة لمليشياتها مما أعاد البلاد إلى قرون سابقة من تطورها التاريخي الاجتماعي.

ومثلما كتبت في مقدمة مقال "الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة" أنه بقدر قتامة الحرب الدائرة الآن، والتي قاربت العام والنصف منذ انطلاقتها، والنفق المظلم الذي أدخلت فيه البلاد والأوضاع الكارثية التي أفرزتها تداعياتها، إلا أنها أضاءت جوانب مهمة على المستوى السياسي والاجتماعي والعسكري ظلت دائماً موضوعة في الزاوية الميتة أو النقطة العمياء أثناء قيادة مسيرة الدولة الدولة الوطنية.

إذاً نحن أمام واقع قاتم له تداعياته الكارثية التي تمشي على قدمين على كل أراضي البلاد، وعلينا اكتشاف الطرق التي نتجه من خلالها إلى منافذ الضوء. ويمكن القول أن هذه الحرب أعادتنا إلى المربع الذي يجب الإنطلاق منه إلى تأسيس الدولة التي تستوعبنا جميعاً بناء على المشتركات التي جمعتنا في ظل الوضع القسري الذي عشناه سوياً طوال القرون الماضية.

واقع يقول بوضوح نحن أمام حلة من سيولة للدولة. وأن لدينا مؤسسة عسكرية تحتاج للكثير من الجهد السياسي لصياغة عقد اجتماعي متراضىً عليه يؤسس لعقيدة شاملة للدولة تنبني عليها عقيدتها العسكرية. وأن أكثر من مائة مليشيا قبلية تتواجد على أراضيها، ومهما تفاوتت وتباينت قدرات تلك المليشيات إلا أنها تظل واقعاً يجب التعامل معه بالجدية اللازمة، والتفكير في تجييره لصالح مستقبل دولة المواطنة.

الاستفادة من هذا الوقع القاتم وتحويله إلى إضاءات على طريق دولة المستقبل يتطلب التعامل مع هذه المليشيات وفقاً لمنظور شامل لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها بما فيها المؤسسة العسكرية، ومثلما كانت الأخيرة عي الأكثر تضرراً وتشوهاً من ممارسات الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان، فإن الفرصة مواتية لتحويل هذه المليشيات القبلية إلى نعمة باستيعاب عناصرها بنسب متفق عليها في المؤسسة العسكرية لبناء جيش واحد قوي محترف يجد فيه كل السودانيين أنفسهم فيه. فالمؤسسة العسكرية قادرة بقوانينها الداخلية، إذا إبعدنا عنها الأيادي العابثة، بتولي عملية الانصهار القومي وترسيخ مبدأ المواطنة.

الأمر يحتاج إلى كثير من الحوار والتفكير خارج الصندوق للوصول إلى صيغة مثلى لاستيعاب هذه المليشيات بحيث ترسخ لمبدأ الدولة لا انحلاها، وتكون نهاية لعهد وبداية لعهد جديد لا تحتاج فيه الدولة إلى إعلان الحرب على المليشيات التي تعارضها ولا إلى تكوين مليشيات لتدعم حروبها الداخلية ضد أبناء جلدتها. ولا يجب الاعتماد على برامج الدمج والتسريح التقليدية التي تتبناها المنظمات الدولية في مثل هذه الحالات، فهي ربما تناسب حالات الدول ذات المؤسسات الراسخة والقادرة على تطبيق مثل هذه البرامج، مع الاستفادة منها وسودتنها لتتماشى مع حالتنا الراهنة. وهي خطوة ستظل معزولة وليست ذات مردود إيجابي، بل وسنظل محلك سر، إذا لما يصاحبها عمل متوازي ومتكامل تخضع له كل مؤسسات الدولة وإعادة بناءها وفقاً لمنظور شامل قائم على مبدأ المواطنة والتأسيس لنظام سياسي ديمقراطي قادر على إدارة التنوع لصالح وحدة البلاد.

معرض الصور